تسعون ألف رسالة تبثها «داعش» يومياً على مواقع التواصل الاجتماعي خاصة «تويتر» و«فيسبوك» وحرب إعلامية نفسية مبرمجة ومكثفة موجهة لكل المجتمعات المسلمة وغير المسلمة ولمختلف الفئات السُنية والثقافية والعرقية، وهو أسلوب إرهابي لم يتدرب عليه طلبة الكليات الأمنية والجامعية، فهو وليد المعطيات التقنية المتطورة التي تتغير بصورة يومية، وما يتدرب عليه البعض هذا الشهر قد يصبح أمراً خارج الحسبة في غضون شهور قليلة، فهي حرب ذكية بكل ما تعنيه الكلمة وفكر مختلف ومنهجية مواجهة يتعلم فيها كل الأطراف في كل ساعة شيئاً جديداً يجعل كل طرف حائر بما ينوي فعله الطرف الآخر والعالم ككل متفاجئ. كيف أصبح الإنترنت وبرامج التواصل الاجتماعي وتطبيقات الهاتف المحمول عالماً خارج عن السيطرة المباشرة للحكومات حتى أصبحت الرسائل، التي تنشرها الجماعات الإرهابية وجماعات التطرف العنيف لقاحاً ذاتياً يعطى للشخص الذي يتعرض لمؤثرات متنوعة وجرعات فكرية ونفسية ليصبح تحت رحمة أيديولوجية معينه لا شعورياً وتحويل مشاعره وميوله وتعاطفه والشعور بالمظلومية، وبأن هناك عالم شر وعالم خير ليس كما يبدو ويصوره المجتمع، ولكنه عالم مختلف يتحرر فيه الشخص من انتمائه للنمطية والتقليدية، وبأن هناك أمراً ما غير صحيح في الصورة الكلية لمعتقدات مجتمعه العام. فالمتطرف العنيف يرى عدم العدالة والتناقض الكبير في تناول القضايا التي تعتبر جوهرية له وتهميش منظور العامة، وكيف يطبق القانون الدولي بانتقائية فيشعر بأنه مقاتل حرية، وبأن لحياته هدفاً أسمى في العدالة الكونية ككل، ويصبح الدين آخر ما يفكر فيه، ومجرد قارب نجاة وتفسير للحيرة والضياع والصراع الداخلي الذي يعيشه. ف«داعش» تعمل بعبقرية من الغريب أن يمتلكها الأشخاص الذين ينتمون لـ«داعش» إنْ افترضنا جدلاً أنهم يملكون تلك العقليات الفذة، فلا يمكن أن يكون التخطيط والتنفيذ والعملية برمتها فعل جماعة ضالة مارقة، تتعذر بالدين، لتتمرد على سيادة القانون، وقتل الأبرياء، وتشويه سمعة الإسلام، حيث تجد في عمليات تصوير المشاهد الإجرامية تقنية سينمائية عالية، ناهيك عن الدعاية المنظمة لـ«داعش» والفيديوهات التي تنشرها لإستهداف سِنْ وفئة معينة كفيديوهات مسيرات طويلة لسيارات جديدة وحديثة ذات دفع رباعي وبمظهر رياضي تخرج من فتحاتها الفوقية رؤوس العناصر «الداعشية» حاملة السلاح في منظر استعراضي يستهدف العقل الباطن، ويغيب الواقع، وإلا كيف نفسر أن تقطع أربع فتيات من بريطانيا، ومن عوائل غنية، ومتفوقات علمياً، ولا يتعدى سن الواحد منهن 16 ربيعاً آلاف الأميال ليصبحن زوجات جهاديات، كما يطلقن ذلك على أنفسهن، ويمسي الواحد في حانة، ويصبح «داعشياً» بين ليله وضحاها. فلماذا وجود «داعش» مهم جداً في هذا التوقيت في قلب العالم الإسلامي؟ والجواب هو سرق الأضواء عن كل القضايا المهمة في العالم، وجعلها تبدو كأنها قدر محتوم لا جدوى من الخوض فيه. فـ«داعش» تصميم ذكي همّش القضايا المهمة والمحورية للعالم الإسلامي، وهي هِبة السماء لكل من له غرض من وجود جسم غريب شاذ كتنظيم «داعش» ونَسبِه للإسلام والتشكيك في العقيدة ومعطياتها وأهلية الإسلام كدين مناسب لكل العصور وفكرة أنه دين ضد الحضارة الإنسانية القائمة، وما هو آتي كما يكرس الإعلام الغربي - ونحن نتبعه من دون تفكير- ترديد مسميات دولة إسلامية وإسلاميين، و«جهاديين» على مسامع العالم. وكيف تبالغ وتركز بحرفنه عاليه موجه وسائل الإعلام في نشر صور ومشاهد الظلم الذي يتعرض له المسلمون في كل بقاع الأرض وعلى مدار الساعة، فوجود التنظيم وكل حركات الإسلام السياسي والتطرف العنيف تعزز نفس المفهوم. ومع أهمية القضاء على «داعش» والفكر التكفيري بصورة جذرية، أتوقع مستقبلاً ظهور «داعش» وشبيهاتها من دون توقف، فهي كرة ثلج ومفاهيم مزروعة في سيكولوجيا المجتمع المسلم وحرب بشعة شنت، وستشن عليه بلا هوادة، حتى يخضع ويركع لصولجان كسرى، ويدفع الضريبة للروم. فإذا أردت تغيير حكومة اخرج في مظاهرات جماهيرية، وإعتصم وسنقف معك، إذا كان التغير في صالحنا أو يدمرك لتهزم داخلياً. فحرق الأراضي البشرية مستمر في وجه من يعارض سياساتنا ويرفض الاعتراف بنا كأسياد للكرة الأرضية. وإذا أردنا تقسيم أمتك لدويلات، لا مانع من أن تتجمع شرار الناس لديك ولدينا في تنظيم تحت مسمى إسلامي، وسنقف نتفرج من بعيد حتى تقوى شوكته وسنتدخل وفق أجندتنا الخاصة حتى يصبح العالم دمية بين أيدينا، فهم ليسوا أذكى من بقية العالم، ولكن بقية العالم لا يجرؤ أن يفكر بجرأة للجم شياطينه الداخلية، قبل أن يفكر في القضاء على الشياطين الخارجية. ولعلنا نسمع في القرن القادم عن تعاون دولي لوقف الانتهاكات البشعة للكيان الصهيوني على الأراضي الفلسطينية أو القرن الذي يليه.