الشريعة بالمنظور الفقهي الوسيط هي النسق الدلالي للشبكة الاجتماعية، والإطار المعياري العام للسلوك الفردي والجماعي العمومي، ومن ثم ليست تابعة لدائرة الحكم ولا متفرعة عنها عرف عن الفيلسوف الألماني - الأميركي «ليو شتراوس» افتتانه بالفلسفة السياسية الإسلامية الوسيطة (بامتداداتها في الفلسفة اليهودية)، وقد أطلق عليها «حركة التنوير الوسيطة» في مقابل «التنوير الراديكالي» الحديث الذي اعتبر أنه قضى على جوهر السياسة من حيث هي نشاط عمومي يحقق اكتمال الوجود الإنساني، (أي السعادة بالمفهوم القديم للعبارة).في هذا السياق يعتبر شتراوس أن خصوصية الفلسفة العربية اليهودية هي مكانة «الشرع» في الحقل العمومي بصفته الإطار القيمي - القانوني المستند للحق الطبيعي والناظم للتصورات الثابتة للعدالة، على عكس التصور التعاقدي الحديث للسياسة الذي يتأسس على نزعة تاريخانية نسبية لا يمكن أن تضمن قواعد صلبة للعدالة داخل الجسم الاجتماعي. كان «شتراوس» يتحدث هنا عن النموذج الفارابي - السينوي الذي كان أحد الروافد الثلاثة في الفكر السياسي الإسلامي الوسيط إلى جانب تقليد «الأحكام السلطانية»، الذي هو الجانب الفقهي المتعلق بالإمامة، و«الآداب السلطانية»، أو نصائح الملوك التي هي جماع الثقافة السياسية العامة المشتركة كما دونها الأدباء وكتاب الدواوين، وإنْ كان شارك فيها الفقهاء أنفسهم، ونفذت بقوة إلى مصنفاتهم العلمية. وإذا كان دارسو الفكر السياسي الإسلامي يميلون إلى الفصل الجذري بين هذه الأصناف الثلاثة، إلا أن الخيوط متداخلة بينها رغم اختلاف الخلفيات المنهجية، ، إذ الاتفاق قائم على المنظور المحوري للمجال السياسي من منطلق مزدوج، هو تأكيد السيادة الإلهية المطلقة، التي هي من مقتضيات عقيدة التوحيد، واعتبار الشرع الإلهي تعبيراً عن هذه السيادة الحاكمة على مختلف مستويات الوجود الطبيعي والإنساني الفردي والجماعي. لقد أنجر عن هذا التصور نموذجان بارزان في المقاربة السياسية، ذهب أحدهما إلى نمط من «اللاهوت السياسي»، يقوم على فكرة الإمامة من حيث هي امتداد للنبوة، التي هي المرجعية العليا لنظام الاجتماع المدني، في حين ذهب ثانيهما إلى ترجمة فكرة الإمامة في منظور استخلافي يفصل جذرياً بين المقام الروحي التشريعي للنبوة ومقاييس الحكم التي تتطلبها حاجيات النظام الاجتماعي لحفظ شرائع الدين ومصالح الدنيا. المنحى الأول يتداخل مع العقيدة الشيعية حول الإمامة المنصوصة المعصومة التي لها وظائف تتعلق بحفظ الشريعة وتأويلها، بيد أنه يجد ترجمته الفلسفية في النظرية السياسية للنبوة التي تندرج في مبحث وجودي صاغه الفارابي في «علمه المدني» الشامل لكل مسالك السعادة في جوانبها الأخلاقية والعملية والاجتماعية التي ترتبط أنطولوجياً ومعرفياً بالفلسفة النظرية التي تبحث في نظام الوجود ومراتبه. الإمامة هنا هي خلافة النبوة في رسم المبادئ والأسس التي تتأسس عليها المدينة الفاضلة، أي القوانين «الإلهية» المطلقة التي تتناسب ونظام الوجود والعقل. المنحى الثاني يرى في الإمامة حاجة حيوية تتطلبها المصلحة ويأمر بها الشرع، بيد أن مدارها هو الغلبة والشوكة لا الشرع والفضيلة، فالخلافة عن النبوة لا تكون في الوظيفة الشرعية التشريعية التي تتعلق بالجماعة ويضطلع بها الفقيه لا الحاكم. ومن هنا ضرورة التنبه إلى الفرق الجوهري بين الشرع والقانون في مفهومه الحديث الذي يرتبط عضوياً بفكرة الدولة السيادية باعتبار أن شرعيتها تتأسس على القانون في الوقت الذي تختص بإنتاج القانون. الشريعة بالمنظور الفقهي الوسيط هي في آن واحد النسق الدلالي للشبكة الاجتماعية، والإطار المعياري العام للسلوك الفردي والجماعي العمومي، ومن ثم ليست تابعة لدائرة الحكم ولا متفرعة عنها ولا قابلة للذوبان فيها، حتى لو لم يجد الفقهاء صعوبة في الجمع بين مبدأ وجوب طاعة الإمام (ولو كان متغلباً أو جائراً)، اتقاء للفتنة وحفظاً للدين والمجتمع، ومبدأ استقلال الحقل الجماعي للشرع عن ضغط الدولة وتحكمها. أراد الفلاسفة ترجمة المضمون اللاهوتي للنبوة (رسالة التوحيد) في مشروع سياسي مدني أفضى إلى نمط من المنظور الاسكاتولوجي (الغائي الأخروي) للعدالة كأفق للاكتمال الأخلاقي والتسامي الروحي خارج الزمنية السياسية البشرية، وفصل الفقهاء بين الوظيفة الأخلاقية الاجتماعية للدين التي هي جوهره وضمانة استمراره وتجربة الحكم بالقوة والغلبة فَانتَهُوا إلى تخالف موضوعي مع حكامهم لامتصاص صدمات تاريخ عاصف ودموي ومتقلب.