انقضت خمسون سنة كاملة الشهر الماضي على رحيل أعظم رجالات إنجلترا في العصور الحديثة.. إنه وينستون تشرشل، الذي ولد عام 1874 في قصر «بلينهيم» الذي كان يقيم فيه جده دوق مارلبورو. وامتدت حياة تشرشل الطويلة عبر أزهى فترات الإمبراطورية البريطانية، مروراً بحربين عالميتين وحتى زوال الحقبة الاستعمارية. وشهد عام 1956 هزيمة السويس، أعقبها تحول بريطانيا إلى أوروبا، والتحرك الموازي لتحرير مزيد من مستعمرات تلك الإمبراطورية، خصوصاً في أنحاء أفريقيا. ومع رحيل تشرشل، كان قدر كبير من الصرح الاستعماري قد تم تفكيكه. لكن السنوات السابقة بين1940 و1945 شهدت مجده ومجد بلاده، حيث حاربت بشجاعة وجلد مع أوروبا لإسقاط التهديدات النازية والفاشية على الحرية. وفي صيف 1940، مع سقوط أوروبا ووقوف الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة الأميركية موقف المتفرج، بدا وكأن تشرشل والإمبراطورية التي يقودها «في أفضل أحوالهما». وهناك قليل من المناسبات في سياق الأحداث العالمية التي يمكن أن يقول المرء فيها «إن ذلك الشخص غيّر مجرى التاريخ». وهذا ما فعله تشرشل خلال الفترة من مايو إلى أكتوبر عام 1940. وبعد رحيله بعام واحد، وصلت إلى كلية «سانت أنطوني» بجامعة أوكسفورد، كطالب في درجة الدكتوراه، وكنت قد جئت من خلفية تنتمي إلى الطبقة العاملة المغمورة بدرجة ما في شمال شرق إنجلترا، ولم أكن ذهبت سوى مرة واحدة إلى خارج جنوب «يوركشاير». لكني كنت أعرف بالطبع سمعة تشرشل الجيدة، مثل الخريجين الجدد الآخرين القادمين من فنلندا وأميركا وأستراليا. وكنا نعرف أن جسمانه يرقد على بعد أميال في منطقة «بلينهيم»، قرب مدينة «وودستوك» العتيقة. لذا، قمنا في أحد الأيام بزيارة المكان لنراه بأنفسنا. ولم يكن ضريح تشرشل في صرح مهيب بين حقول خضراء في «بلينهيم»، بل كان موجوداً بصورة رمزية بعيداً عن كل مظاهر الفخامة، ويبعد أميالا قليلة في قرية «بلادون» الريفية الهادئة. وبدقة كان يرقد داخل حدود منطقة المقابر التي تحيط بكنيسة أبرشية تعود إلى العصور الوسطى، في ضريح عائلة تشرشل التقليدي، إلى جانب أقاربه الراحلين. وكانة شاهدة قبر «تشرشل» كأبسط ما تكون، وقد كتب عليها: «هنا يرقد وينستون ليونارد تشرشل: 1876 – 1965». وفي عام 1977، أضيف اسم زوجته، كليمنتين تشرشل على الشاهد. وبدا الشاهد نظيفاً تماماً عندما زرناه، فقد كان عمره عاماً واحداً فقط. وأذهلتنا بساطته وتواضعه، ولم يسعنا سوى أن نتخيل أن تشرشل نفسه كان قد أمر بذلك، لأنه كان شغوفاً جداً بأراضي إنجلترا الخضراء وحقولها الغناء وأسوار أشجارها وجداول مياهها وغاباتها. والعام الماضي، بعد مرور خمسة عقود، عدت إلى أكسفورد لحضور مؤتمر ووجدت وقت فراغ بعد ظهر يوم سبت قبل عودتي إلى الولايات المتحدة. فسافرت مع ثلاثة زملاء شباب عبر الطريق ذاته باتجاه الشمال إلى وودستوك، بين الجدران الحجرية العالية في المنطقة، مروراً بطريق صغير وصولا إلى مدخل باحة كنيسة بلادون. لم تتغير الكنيسة، وكان بداخلها زائران ينظران إلى صور قديمة لتشرشل في حفل تعميد بكنيسة إنجلترا قبل أعوام كثيرة. ومرة أخرى أذهلتني الأمور المسالمة هناك. وراودني سؤال: ألا يمكن لبقية العالم أن يكون مثل هذه القرية في هدوئها وبساطتها ومسالمتها واطمئنانها؟ وكانت إنجلترا مكاناً يجتاحه العنف قبل ألف عام، فهل ينبغي أن تنتظر سوريا والعراق و50 مكاناً آخر هذه المدة قبل أن تعرف الهدوء السياسي والإنساني؟ وبعد ذلك خرجنا من الكنيسة ووجدنا نفس الضريح. وكنت مثاراً ومرتعداً قليلاً بعودتي. ثم شعرت بالصدمة. فالشاهدة كانت متسخة والكتابة كانت غامضة. فماذا حدث؟ ألم يحفظ أحد شاهدة القبر أو ينظفها؟ وبينما أصابني الهلع، تساءل أصدقائي الشباب، لماذا وصل الأمر إلى هذا الحد؟ وكيف أمكن ذلك؟ ولماذا تم إهمال شاهدة قبر ذلك البطل العظيم بهذه الدرجة من السوء؟ وأين كانت الأسرة؟ وهل علمت الصحافة بشأن ذلك؟ وأثناء عودتي إلى السيارة اغرورقت عيناي، وشعرت بالغضب والخزي. فهذا عار على إنجلترا وعلى أكسفورد وعلى حكومة كاميرون. وبعد برهة، بدأت أفكر من جديد، فهذا لا يمكن أن يكون إهمالا حقيقياً. فالناس لم يظلوا صامتين طوال خمسين عاماً. أو على الأقل ليس الجميع. فهل أمر تشرشل وأسرته بذلك، ليجعلونا نفكر بشأن الحياة والموت وبشأن شهرتنا وإنسانيتنا، وحياتنا على هذه الأرض ومداها المحدود؟ يُنشر بترتيب خاص مع «خدمة تريبيون ميديا سيرفيس»