ربما أوحى السلام لشعوبنا بأن الثورات العربية التي قامت في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي كرد فعل على هزيمتنا في فلسطين في 1948 قد انتهت، وأنها كانت عاجزة عن تحرير فلسطين. بل إن مزيداً من الأراضي قد ضاع في عهدها، وأنها كانت سبباً في انتكاسات الأمة. وبالتالي نتوب عما قمنا به، والتوبة الصادقة تقتضي الندم على ما فات، وترك الذنب في الحال، وعدم العودة إلى مثله في المستقبل! تحدث لدينا عقدة الذنب بأننا سلكنا الطريق الخطأ! وقد يقول آخرون: ما كان أجدرنا بأن نقبل قرار التقسيم في 1947 أو قبول الاستسلام بعد هزيمة 1967، فالثورة طريق مسدود، فورة وسرعان ما تنطفئ، يسلبها منا القادة ثم لا يستطيعون الصمود. لذلك كان المطلب في كل اعتداء علينا تحريرنا من الطغمة الثورية التي سببت لنا الهزائم وخربت الديار، وهدمت المدن، وشردت المواطنين! وبالتالي انتهت روح الثورة من الشعوب. وتكون الثورة العربية في 1952 التي كانت رائدة الثورات في العالم الثالث، تكون تلك الثورة الأم قد تمت تصفيتها وإدانتها واعتبارها خطأ لابد من التكفير عنه، واستثناء في تاريخ أمة هادئة الطبع، ترفض العنف والغضب، وتكرم الضيف، وتحب الجار، وتسامح المعتدين! ولما كان لكل أمة مشروعها القومي، فلا يوجد شعب إلا وله رسالة بها يحيا وبدونها يموت، فالشعوب السلافية تقوم على حب الأرض والدفاع عن روسيا الأم (إيفان الرهيب)، والشعوب الجرمانية تعتز بروحها وثقافتها ولغتها (فيشتة)، والشعب الأنجلوسكسوني يعتز بديمقراطيته ودساتيره ومجالسه النيابية (كرومويل)، والشعب الفرنسي يفخر بوطنيته وثورته (جان دارك ونابليون) -فقد صغنا نحن مشروعنا القومي في مبادئ الثورة الستة، ثم في «الميثاق الوطني»، ويقوم على مناهضة الاستعمار والصهيونية، ويحقق آمال الأمة في الحرية والاشتراكية والوحدة. ويعني السلام بالنسبة للعدو إنهاء مشروعنا القومي. فقد أيدنا الاستعمار في مطالبنا على مائدة المفاوضات، وأعلنا بأن الرأسمالية لم تعد مشكلة، فليكسب كل منا ما يشاء ويدفع ضرائبه للدولة أو يتهرب منها، وأن العمل ليس وحده مصدر الثروة. وأدركنا أخيراً أن الصهيونية أقامت دولة متحضرة! ندخل معها في علاقات طبيعية ونغمض أعيننا عما تفعله في جنوب لبنان وعن احتلالها لفلسطين ومصادرتها لأراضيها وتشريد شعبها. تمزق العالم العربي إرباً إرباً، وانعزلت مصر قلبه النابض في نهاية السبعينيات، وقال آخرون إنها خسرت في الحروب الرجال والأموال، وإن ما أنفقته في معارك العرب كان أولى بها أن تنفقه للبناء والتعمير. أما حرياتنا فلا يجوز لها المساس بالكيان الصهيوني أو الاعتراض عليه وإلا اعتبر ذلك معادياً لاتفاقيات السلام، ودعوة للمشاغبة، وبثاً للكراهية، وبالتالي ينتهي مشروعنا القومي، ونصبح شعوباً بلا هدف، وتصبح الصهيونية هي الصوت الوحيد المسموع في المنطقة، تحل محل القومية العربية، وتكون مفتاح القوى في الشرق الأوسط ومركز الثقل فيه. فإذا ما تم ذلك انتهى دورنا في تأييد حركات التحرر الوطني في العالم تلك التي بدأناها وأيدناها وقوّيناها وأصبحت جزءاً من فخرنا في حياتنا المعاصرة. بل ربما تحولنا إلى حركة تحرر مضادة ترى في حروب التحرير استعماراً جديداً وصراعاً أيديولوجياً بين القوى الكبرى. وقد كان في القاهرة إبان المد الثوري العربي أكثر من ثلاثمائة ممثل لحركات المقاومة ولمنظمات التحرير في أفريقيا. فينتهي دور القومية العربية كرائدة لحركات التحرير في العالم، وقد تسبقنا شعوب أخرى تأخذ منا الريادة. وفي الذاكرة نهاية التعاون المشترك مع المعسكر الاشتراكي سابقاً الذي كان الحليف التاريخي لمعظم حركات التحرر الوطني، يمدها بالتأييد المادي والمعنوي، بل إننا ربما كنا نعاديه، ونعتبر أنه لا يقل استعماراً وهيمنة عن الاستعمار الغربي الرأسمالي التقليدي، ونصفه بأنه أصبح زعيم الثورة المضادة في العالم يمنع تزويد السلاح، ويرفض إعادة جدولة الديون، ويريد دوران العالم الثالث في فلكه، وربطه بالمعاهدات والأحلاف، ويعادي القوميات، ويثير الانقلابات. وهذا لا يعني أن المعسكر الاشتراكي خارج دائرة النقد، وأن الدول الاشتراكية السابقة لا تؤثر أحياناً مصالحها الخاصة كدول على دورها التاريخي كثورات، ولكن نقد الثورة للثوار شيء ونقد الثورة المضادة للثوار شيء آخر. وهكذا نصبح بلا حلفاء، ونقطع جسورنا، وحلفاؤنا الغربيون الجدد يؤيدوننا بالكلمات وبالنوايا الحسنة، وجسورنا الجديدة لم يمر عليها عتاد بعد. ----------- أستاذ الفلسفة - جامعة القاهرة