رغم تعدد الأدبيات التي تناقش موضوع الجماعات الدينية السياسية على المستوى الفكري والتنظيمي والحركي، فإن كتاب «السراب» لمؤلفه الدكتور جمال سند السويدي، يتطرق لهذه الظاهرة بشكل معمق ومغاير، حيث يتناولها من زوايا بحثية متعددة، فكرية وسياسية وعقائدية وثقافية، مركزاً على الفكر الديني السني بشتى تجلياته وجماعاته، من «الإخوان المسلمين»، مروراً بالسلفيين والسروريين، وصولا إلى الجماعات الجهادية. وبالإضافة إلى عمق الطرح وغزارة التساؤلات، يتميز الكتاب بشمولية المعالجة والتوثيق العلمي الدقيق للأحداث والمواقف والآراء الأيديولوجية والسياسية لتلك الجماعات. خلال المراحل النهائية من عمله في كتابه الأخير «آفاق العصر الأميركي.. السيادة والنفوذ»، توصل الدكتور جمال سند السويدي إلى قناعة مفادها أن فهم المشهد الراهن للعلاقات الدولية وتأثيراته على العالمين العربي والإسلامي يتطلب أيضاً اكتشاف المعوقات التي تحول دون تفاعل كثير من الدول العربية والإسلامية مع الواقع العالمي الراهن، وفي مقدمة هذه المعوقات ارتهان تلك الدول ومجتمعاتها لأيديولوجية الجماعات الدينية السياسية التي باتت تمثل إحدى عقبات التنمية والتطور والحداثة فيها. وقد وجد المؤلف تشابها لافتاً للنظر بين حال الملايين من مواطني بعض الدول العربية والإسلامية، وحال مَن يتعرض لتأثيرات ظاهرة طبيعية فريدة هي ظاهرة «السراب» التي عبّر عنها القرآن الكريم تعبيراً إعجازياً في قول الله تعالى: «وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى? إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا». لذلك فقد رأي الدكتور جمال، في كتابه الجديد «السراب»، والذي نعرض هنا بعض محاوره ومضامينه، أن حال الملايين من شعوب بعض الدول العربية والإسلامية ممن ظنوا في الجماعات الدينية والسياسية خيراً، واعتقدوا بامتلاكها مقدرة على إصلاح الأوضاع وتحقيق طموحاتهم التنموية والعبور بمجتمعاتهم إلى بر الحداثة والتطور.. هو حال أقرب إلى حال من خُدع بظاهرة السراب التي يخيل للناظر أنها شيء وهي ليست بشيء. وفي ضوء ذلك يطرح الكتاب عدداً من التساؤلات المهمة والحيوية، التي تحتاج إلى التقصي والبحث عن إجابات واضحة ومباشرة، نظراً لما يمر به العالم العربي والإسلامي من حقب تاريخية مظلمة، وهي تساؤلات تشكل معاً الإشكالية الرئيسية للكتاب: لماذا استطاع الغرب في أواخر القرن الخامس عشر الميلادي فصل الدين عن السياسة، بينما نرى في الدول العربية والإسلامية، وفي القرن الخامس عشر الهجري تحديداً، إصراراً ومحاولات دائبة على من الجماعات الدينية السياسية لاستغلال الدين -من خلال مزجه بالسياسة- لتحقيق مآرب حزبية وشخصية؟ لماذا تقوم هذه الجماعات باحتكار تفسير الدين، وتروِّج لمفاهيم غير واقعية، مثل الخلافة والبيعة، ويذهب العديد منها إلى تكفير مخالفي الرأي وقتلهم، مخالفة بذلك أسساً ومبادئ رئيسية رسخها الدين الحنيف الذي يسعى إلى غرس أسس الوسطية والاعتدال والتسامح؟ ولماذا فشلت تجارب هذه الجماعات في بناء إجماع وطني في الدول التي حكمتها، وتقديم إجابات عن سؤال الإحياء أو التحديث، بل تهاوت سريعاً بعد أن فشلت في فهم محركات الوعي الجماعي لشعوبها؟ وللإجابة على تلك التساؤلات يقدم الكتاب رؤية بحثية معمقة حول الجماعات الدينية السياسية في شتى ممارساتها وتجلياتها، من خلال تتبع تطورها التاريخي ودراسة حالة بعضها منذ بدايتها حتى فشل تجربة حكم جماعة «الإخوان المسلمين» في بعض الدول العربية والإسلامية، والتعرف على أسباب هذا الفشل الذي نسف موروثاً طويلا من الشعارات التي ظلت نحو ثمانين عاماً موضع تبجيل وتقدير لدى أوساط الجماعات الدينية والمتعاطفين معها. ويبين الكتاب كيف انتقلت الجماعات الدينية السياسية، ولو لفترة وجيزة، من مربع معارضة الأنظمة الحاكمة في بعض الدول العربية والإسلامية، إلى مربع الحكم والسلطة، ودخلت اختباراً تاريخياً كشف عوراتها الفكرية والسياسية والعقائدية والتنظيمية والاقتصادية والثقافية. لقد فشل حكم «الإخوان المسلمين» في مصر بسبب اعتمادهم على الشعارات من دون امتلاكهم رؤية تنموية جادة أو برامج سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية تترجم هذه الشعارات إلى خطط تنفيذية وبرامج عمل يحتاجها الشعب الذي ظن بعضه لوهلة أن هذه الجماعة تمتلك حلولا لانتشال البلاد من أزماتها. بينما اضطر «حزب النهضة» («إخوان» تونس) إلى تقديم تنازلات سياسية لمنافسيه، لكن ذلك لم يفلح في معالجة ما لحق بشعبيته من تدهور وتراجع. لذلك ليس ثمة دليل أو برهان على إخفاق الجماعات الدينية السياسية أوضح من تراجع معدلات شعبيتها بعد انهيارها بشكل واضح في السنوات الأخيرة، حيث كانت أكثر التقديرات تفاؤلا في عام 2010 تشير إلى أن هذه الجماعات تتمتع بتأييد يتراوح بين 25 و30 في المئة، في حين تشير التقديرات الحالية إلى نسب تأييد لا تتجاوز 10 في المئة بأي حال من الأحوال. وكما يشرح الكتاب باستفاضة وتعمق، فقد أثبتت التجربة أن الجماعات الدينية السياسية قد تقبل في ظاهر الأمور فكرة المساواة بين المواطنين كأحد الأسس الدستورية والمدنية، لكنها لا تزال تنفر من مفهوم المحاسبة وفكرة المساواة بين الرجل والمرأة في الحقوق السياسية والاقتصادية والاجتماعية، كما أن قبول بعض مبادئ الحداثة، مثل التعددية السياسية، يبدو موضع شك كبير. فعلى سبيل المثال يشير برنامج جماعة «الإخوان المسلمين» إلى التزام التعددية السياسية واحترام النظام الديمقراطي، لكن تجربة ممارستهم للحكم في مصر بين 30 يونيو 2012 و3 يوليو 2013، أثبتت ضيق نظرتهم للآخر، حتى لو كان مسلماً مختلفاً في الرأي والتوجهات السياسية. بل كانوا لا يتورعون عن توجيه حملات النقد العنيفة ضد أحزاب وشخصيات دينية جاءت من الخلفية العقائدية ذاتها القائمة على استغلال الفتوى للمصلحة السياسية وللتكفير والقتل، مع تباينات فكرية قد تبدو ضئيلة. وكما يوضح الدكتور السويدي، فإن المشكلة الأساسية في سلوك الجماعات الدينية السياسية وخطابها، أنها تمارس دكتاتورية مطلقة، بحيث يكتسب سلوكها السياسي طابعاً شمولياً، قائماً على عدم قبول الآخر أياً كان، حيث يشير تحليل أدبيات الجماعات الدينية السياسية إلى ضبابية خطابها الفكري والسياسي ومراوحته بين إشكاليتين، الأولى تتعلق بمصدر الشرعية، هل هو النص أم الأمة الأمينة على النص، حيث تلغي فكرة «الحاكمية»، التي قال بها سيد قطب، اتكاء الشرعية على جموع الأمة وحصرها في الحاكمية الإلهية. بينما يذهب اتجاه مضاد إلى أن الأمة هي مصدر الشرعية في إطار مرجعية النص. أما الإشكالية الثانية فتتعلق بتحديد إطار سيادة الأمة، وهل المقصود منها «دار الإسلام» التي لم تعد قائمة في البناء السياسي الحديث، أم «الدولة- الأمة» (الدولة الوطنية) بمفهومها السياسي الحديث وليس بمعناها الديني؟ ويبدو هذا الجدل، كما يلاحظ الكتاب، أقرب إلى ظلامية تعيشها بعض مناطق العالمين العربي والإسلامي في القرن الخامس عشر الهجري، وهي حالة مشابهة لمرحلة التخلف التي عاشتها القارة الأوروبية في العصور الوسطى، وتحديداً خلال القرن الخامس عشر الميلادي، مما يشير إلى وجود مسافة زمنية كبيرة تفصل العالمين العربي والإسلامي عن الحداثة. ومن أسباب حالة الفصال بين الدين والواقع، كما تكرسها أفكار الجماعات الدينية السياسية وممارساتها، علاقة الدين بالحداثة، وهي جدلية فلسفية تاريخية استغرقت وقتاً طويلا من المفكرين والفلاسفة، لكن الجماعات الدينية السياسية في العصر الراهن ترى في أي محاولة للتطوير ومواكبة العلم استسلاماً للحداثة والتغريب ورفضاً للموروث الديني والحضاري والقيمي والأخلاقي، من دون أدنى تفكير في أن البناء يتطلب أساساً قوياً، وهو في حالتنا هذه التراث الحضاري والديني الذي لا يمكن إنكاره ولا البناء عليه من دون استيعاب مفرداته والإلمام بشتى جوانبه، من أجل إدراك مرحلة الحداثة ارتكازاً على أسس قوية. لكنه من باب المفارقة، يقول المؤلف، أن تدعي الجماعات الدينية السياسية دفاعها عن الإسلام، رغم أن ممارسات بعض قادتها وعناصرها لا تمت للإسلام بصلة، بل هي تطبيق لأفكار ورؤى متشددة وردت في كتب لأبي الأعلى المودودي ولمنظِّر «الإخوان المسلمين» سيد قطب. ويعد كتاب قطب، «معالم في الطريق»، واحداً من أهم الأوعية الفكرية للتطرف والإرهاب، حيث نهلت منه ولا تزال الجماعات الدينية السياسية المتشددة، ونمت وانتشرت بسببه ثقافة العنف والتطرف في العالمين العربي والإسلامي. بينما كان المودودي هو المرجع الذي استند إليه قطب في مفهوم «الحاكمية»، والذي يرى أن المجتمعات العربية والإسلامية على ضلال وكفر، ولا سبيل لتقويمها وإعادتها إلى سبيل الرشاد إلا بتطبيق هذا المفهوم، واعتماد تفسيرات منظري الجماعات الدينية السياسية للشرع باعتبارهم وكلاء لله في الأرض، في نزوع تكفيري وإضفاءٍ للضلالة على المجتمعات. ولأن التطرف هو مقدمة للقتل ومرحلة سابقة عليه، فإن تلك الرؤية الدينية الضيقة، كما يشرح الكتاب بتعمق وتبصر، هي التي أدت في النهاية إلى شيوع هذا المستوى المذهل من العنف وسفك الدماء على أيدي منتسبي هذه الجماعات في مناطق شتى من العالمين العربي والإسلامي، حيث لا حرمة للدماء ولا للأعراض. لذلك، يرى المؤلف أن إحدى الإشكاليات التي تعانيها الجماعات الدينية السياسية، كونها تضع ما تسميه «دولة الخلافة» بديلا وحيداً وحصرياً للدولة المدنية، دون أن تبحث عن سبيل لرأب الفجوة وبلورة صيغة عصرية قابلة للحياة بين هذين البديلين، بل اكتفت بالمضي وراء مصالحها وتنفيذ خططها حتى لو قادها ذلك إلى مخالفة ثوابت الصيغة الدينية ذاتها. وينتهي الكتاب إلى خلاصات مهمة منها أن مستقبل الجماعات الدينية السياسية يظل رهن التعاطي مع مشكلتين رئيسيتين تجعلان مستقبلها أمراً صعب التحديد والتنبؤ، وتتمثل المشكلة المستعصية الأولى في وجود التنظيمات الجهادية التي صبغت كل شيء ديني بصبغة العنف، ما يشير إلى مستقبل مشبع بالعنف والتشدد للإسلام السياسي على المديين القصير والبعيد. أما المشكلة الثانية فتتمثل في فكر الإسلام السياسي وخصائصه ورؤاه، إذ يتطلب أي تغيير محتمل في المسار قراراً من هذا التيار بالتخلي عن أفكاره ومحدداته المرجعية. وهذا أمر مشكوك فيه في ظل المعطيات الراهنة. لذلك يتوقع المؤلف أن تبقى الجماعات الدينية السياسية على هوامش الحياة السياسية في العالمين العربي والإسلامي خلال المديين القصير والمتوسط على أقل التقديرات، هذا إن بقيت لها أي شرعية قانونية وسياسية وشعبية تذكر. فهي قد استغلت موجة «الربيع العربي» ووصلت إلى الحكم لتبرهن على أنها غير ناجحة سياسياً واقتصادياً، بل أصاب الكساد تجارتها وتهاوت أصنامها، وباتت تشكل خطراً أمنياً على استقرار بلدانها، سواء في مصر أم تونس أم ليبيا أم أفغانستان أم العراق.. وهو الحصاد المرير لما زرعتْه طوال عقود. محمد ولد المنى كتاب جديد للدكتور جمال سند السويدي