يواجه الاتحاد الأوروبي ثلاث أزمات على درجة كبيرة من الخطورة يمكن أن تمتد بتداعياتها إلى مستقبل المشروع الأوروبي المشترك نفسه وتقوض دعائمه التي أقيمت في أعقاب الحرب العالمية الثانية، حيث كان الهدف وضع حد لقرون طويلة من الحروب الأوروبية المستمرة، وتحديداً بين فرنسا وألمانيا. ولعل أولى تلك الأزمات التي تتخطف الاتحاد الأوروبي وتهدد بنيانه هي ما يتعلق بالصراع الدائر حول أوكرانيا، فقد عجزت أوروبا عن وقف الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، ولجم جهوده المتواصلة لمنع انضمام أوكرانيا إلى المعسكر الغربي حتى لو تطلب ذلك استخدام القوة العسكرية، وعلى رغم العقوبات التي فرضها الغرب على بعض قطاعات الاقتصاد الروسي، والانخفاض الكبير في أسعار النفط الذي تعتمد عليه موسكو، فقد واصل بوتين من دون هوادة جهوده الرامية لزعزعة استقرار أوكرانيا، هذا في الوقت الذي لم يتمكن فيه القادة الأوروبيون، ولاسيما المستشارة أنجيلا ميركل، والرئيس فرانسوا أولاند، من التوصل إلى اتفاق قابل للتطبيق مع بوتين، فيما الوضع الميداني آخذ في التدهور. أما الاقتراحات بتسليح أوكرانيا فلم تلقَ الرواج المطلوب لأن روسيا تستطيع بكل سهولة مواجهة ذلك بترسانتها الهائلة من الأسلحة التي ستدفع بها إلى الجانب الآخر من الحدود مع أوكرانيا. هذا ناهيك عن حقيقة كون تشديد العقوبات الاقتصادية لن يقتصر ضرره على روسيا وحدها، بل سيمتد أيضاً إلى الدول الأوروبية نفسها التي تربطها صلات وثيقة بروسيا. ولكن أوكرانيا ليست هي التحدي الوحيد الذي يواجهه الأوروبيون، إذ بالإضافة إليها هناك أيضاً الأزمة الناشبة بين اليونان وباقي أعضاء الاتحاد الأوروبي حول شروط خطة تسديد الديون، فما إن صعدت حكومة اليسار اليونانية الجديدة إلى السلطة في يناير الماضي بتفويض شعبي واضح حتى احتدم الخلاف بينها وبين الاتحاد الأوروبي، حيث تصرّ على عدم الاستمرار في خطة التقشف القاسية. وحتى بعد أسبوعين من النقاشات المحمومة والقاسية بين وزير المالية اليوناني، يانيس فاروفاكيس، ونظيره الألماني فولفجانج شوبل، ليس واضحاً بعد ما إذا كان سيتم التوصل إلى اتفاق لمواصلة خطط الدعم للاقتصاد اليوناني، أم ستفشل أثينا في سداد ديونها وتُدفع إلى إشهار إفلاسها مع ما لذلك من تداعيات لن تقل عن مغادرة منطقة «اليورو». وإلى جانب المشكلة الاقتصادية الكبرى التي تطرحها اليونان، هناك أيضاً الإشكالية الأمنية القريبة من الضفة الجنوبية للاتحاد الأوروبي، حيث لا تخلو المنطقة من قلاقل واضطرابات سواء في ليبيا الخارجة عن السيطرة، أو سوريا التي تشهد حرباً طاحنة منذ أربع سنوات، فيما تحولت تركيا ومصر وليبيا إلى نقاط لعبور الآلاف من اللاجئين الباحثين عن الأمن في أوروبا. وهؤلاء اللاجئون يتعرضون لكل صنوف الاستغلال والابتزاز من قبل المهربين، بل لقي العديد منهم حتفهم غرقاً في محاولاتهم اليائسة الوصول إلى الشواطئ الأوروبية. وحسب منظمة الهجرة الدولية تعتبر موجة اللاجئين الأخيرة من الشرق الأوسط وأفريقيا هي الأكبر من نوعها منذ الحرب العالمية الثانية. وكأن ذلك لا يكفي فهناك أيضاً التحدي الكبير الذي تجسده التنظيمات الإرهابية المنتعشة في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا مثل «داعش» ووصول لهيبها إلى داخل البلدان الأوروبية كما اتضح في العمليات الإرهابية الأخيرة التي استهدفت فرنسا والدنمارك. بيد أن التحديات المرتبطة بالأزمة الأوكرانية وتدفق أعداد كبيرة من اللاجئين على أوروبا، وأيضاً الخطر الإرهابي الذي يمثله التطرف الديني، ليست هي الوحيدة التي تقض مضاجع الأوروبيين، بل هناك أيضاً تنامي نفوذ الأحزاب المتطرفة في أوروبا نفسها سواء على اليمين، أم اليسار، ففي اليونان استطاع حزب «سيريزا» المحسوب على اليسار الراديكالي قلب المعادلة السياسية في البلاد، وتعيش فرنسا أيضاً على وقع التنامي اللافت لشعبية حزب «الجبهة الشعبية» اليميني المتطرف. وكل ذلك يأتي في وقت لم تعد فيه أوروبا تملك القدرات العسكرية الكافية لردع الطموح الروسي المتسع في الشرق الأوروبي، أو التصدي الفعال لتمدد «داعش» في العراق وسوريا. وحتى الولايات المتحدة التي تعتبر هي الوحيدة القادرة على المواجهة العسكرية، يبدو أنها هي أيضاً فقدت شهية التدخل الدولي بعد 13 سنة من المغامرات العسكرية غير المجدية لتنكفئ في الأخير على نفسها وتزهد في العالم الخارجي وما يحفل به من صخب وصراعات دولية، ليزيد بذلك ثقل العبء على الأطراف الدولية الأخرى، وفي مقدمتها طبعاً أوروبا العالقة، بل الغارقة في أزماتها الطاحنة.