مع ما أطلق عليه «الربيع العربي»، استبشر البعض بالتغيير الإيجابي في أحوال منطقة الشرق الأوسط، خاصة تجاه التنمية. لكن سرعان ما واجهنا موجات متتالية من الإرهاب الأعمى، على أيدي حركات أصولية متطرفة ترتدي عباءة الإسلام، وتحاول تطبيق نظام حكم يستمد الحاكم فيه سلطته مباشرة من الإله. ووقود هذا الجنون آلاف القتلى وملايين المهجرين العرب وغالبيتهم من المسلمين! وقد كان من فضل صحيفة «الاتحاد» عقدها ندوة خاصة بهذا الخصوص في أكتوبر الماضي، وبعدها جاءت ندوة «العنف باسم الدين: حماية التنوع الديني والثقافي في العراق وسوريا» والتي عقدها مركز «الملك عبدالله بن عبد العزيز الدولي» في العاصمة النمساوية يومي 18 و19 نوفمبر الماضي. ومع التأكيد على أن مسألة الإرهاب ليست خاصة بالتنظيمات فقط، بل ببعض الدول أيضاً (مثل إرهاب دولة «إسرائيل»)، فإن الأصولية في بيئتها الأصلية، أي الغرب، بدأت حين آمنت فرقة من البروتستانت بالعصمة لأفرادها الذين يدعون تلقيهم عن الله مباشرة، ويعادون العقل والفكر العلمي، ويميلون إلى استخدام القوة والعنف في سبيل هذا المعتقد، وبث الرعب. كذلك، ظهرت الأصولية اليهودية (الأرثوذكسية) رداً على اليهودية الإصلاحية لدرء الخطر الذي يمكن، بزعمهم، أن يهدد اليهود بالذوبان إذا ما استجابوا للاندماج في المجتمعات التي يعيشون فيها، فدافعت عن تراث «الغيتو» اليهودي وعن فكرة الانغلاق، وعن الاختيار الإلهي، ورفضت جميع الإغراءات، التي أفرزتها دعوة التحرير والمساواة التي تهدد خصوصية اليهود. ورغم ذلك، لا تقتصر الأصولية على الأديان والمذاهب الدينية، بل تتعداها إلى المذاهب الفكرية والأيديولوجيات والنظريات السياسية. اليوم، جاء دور العصابات الإرهابية «الإسلامية» التي أسقطت كل ما هو جميل في الإسلام، في محاولة لخلق إسلام خاص بها، يقوم على رفض مبادئ الإسلام الأصيلة القائمة على الحرية في الدين والديمقراطية السياسية والعدل والسلام والإحسان.. إلخ، واستبدالها بقتل الأبرياء عشوائياً باسم الجهاد ونهب أموال الناس واستعبادهم. ويكمن السبب الرئيس في صعود الأصولية الدينية المعاصرة (التي لها أمثالها في تاريخنا) والمتجسدة في عديد التنظيمات الإرهابية العربية والإسلامية اليوم، كان قد بدأ منذ قيام الدولة الأمنية المستبدة مع مطلع الاستقلال عن الاستعمار، وفشل الحركات المدنية في إدارة الحكم، مع عدم احترام حقوق الإنسان، وتنامي الظلم الاجتماعي والمشكلات الاقتصادية. فانعدام أنظمة الحكم الصالح، التي عادة ما تبث الأمل في الناس، هي تربة خصبة لتنامي الأصولية الدينية. ويعود أحد أسباب الإرهاب إلى الفهم الخاطئ، والتفسيرات الغريبة للنص الديني، في ظل مؤسسات دينية كانت، بشكل أو بآخر، مسايرة وداعمة للمؤسسة السياسية الحاكمة. كما علينا عدم تجاهل حقيقة أن العالم العربي ليس مجتمعاً واحداً، بل مجتمعات، لطالما راهنا على تجانسها، بينها جماعات كبيرة غير عربية، فضلاً عن التنوع الديني والتنوع المذهبي، ما جعل البيئة العربية تربة خصبة تتمدد فيها الأصولية الدينية، مع العلم أن وجود الاثنيات لم يكن في يوم من الأيام خطراً بحد ذاته، طالما توافرت لها أجواء التكامل القومي، والمجتمع المدني، ونجاح المؤسسات الدينية في الترويج للسماحة والوسطية، التي تتحلى بها الأديان المتعايشة بمحبة. يقول «رافائيل لوفيفر»، من مركز «كارنيجي» لأبحاث الشرق الأوسط (مع تحفظنا على جوانب مما قاله): «نقطة التحول الحقيقية في ظهور الأصولية الدينية حصلت لدى غزو العراق في عام 2003 (ونحن نعتقد أن الظاهرة أقدم من ذلك). فلقد أخرج هذا الغزو إلى العلن مجدداً الصراع الطائفي (بين سنة وشيعة)، وأفسح المجال لتكون إيران لاعباً أساسياً في العالم العربي، وأثار شعوراً بالضعف لدى السنة». وأضاف لوفيفر: «لا يمكن النظر إلى الصعود السريع لجبهة النصرة وداعش والمجموعات السنية المتطرفة الأخرى إلا في ضوء هذه الهشاشة السنية، التي تجلى مقابلها الثقل العسكري لحزب الله في لبنان وسوريا، وقمع ثورة معظم أفرادها من السنة على أيدي (نظم غير سنية)، والأداء التمييزي على مستوى واسع ضد السنة في العراق من الحكومة، التي يسيطر عليها الشيعة». أما أستاذة علوم الأديان في جامعة القديس يوسف في بيروت، «نايلة طبارة» فتقول في طرحها إنه، وبعد صدمة اتفاقات أوسلو، «لم يعد القتال من أجل القضية الفلسطينية مبرراً. لم تعد هناك قضية، فبات الإسلام المتطرف أمراً جذاباً». وهو ما يؤشر إليه، على نحو واسع، الاختصاصي في علم النفس والإنتروبولوجيا الأستاذ في جامعة ميشيغن الأميركية «سكوت اتران» بالقول: «هؤلاء الشبان يجدون في التنظيم ما تفتقر إليه مجتمعاتهم، أي الحماس المرتبط بالنضال من أجل قضية، ما يجعلهم يعتقدون أن سلطتهم لا حدود لها، وأنهم يملكون سلطة إلهية. إنها مغامرة. والشعور عندهم بالقدرة على تغيير العالم أمر جذاب جداً».