لا أسعى من وراء كتابة هذا المقال إلى فتح جروح قديمة أو التذكير بما نريد نسيانه، بل أريد التنبيه إلى شيء غائب في حياتنا العربية. لقد تناسى الجميع ثقافة مهمة جداً، وهى ثقافة الاختلاف، فمع الحرية في التعبير جاءت الصدمة. إننا لسنا وحدنا في هذا الكون، بل هناك حتماً من يفكر غيرنا، ومن يحمل رأياً مخالفاً لنا، وبدلا من تقبل هذا الاختلاف، أصبح هناك هجوم في كل مجال ممكن. ولكي نتقبل الرأي الآخر، لابد أولا أن نؤمن بأهميته الاختلاف الفكري، فأي فكر يحتمل الصواب والخطأ وأي فكر مخالف يجب أن نستمع له أولا ونفكر فيه جيداً قبل أن نحكم عليه. ينبغي أن نبدأ بالبحث عن نقاط التلاقى وسط بحار الاختلاف، لنبدأ حواراً بنّاءً يصب في مصلحة الإنسانية في كل مكان: في العمل، في الشارع، في المنزل، في العمل السياسي والاقتصادي والتربوي.. ولنتوقف عن اتهام كل فكر مختلف بأنه إما خائن أو عميل أو جاهل أو سطحي أو أي صفة مشينة يمكن أن نطلقها لمجرد أن أصحابه مختلفين معنا في الرأي. ولنؤمن دائماً بأن في الاختلاف تنوع، وفى التنوع دوماً جديد، والجديد هو ما نحتاجة لنتطور ونتقدم، لأن سبب الركود كان الجمود الناتج عن عدم تقبل أي أفكار مختلفة. لا خير ننتظره من موظف يعمل لأنه مضطر لأن يعمل، من عامل لا يرى في العمل سوى وسيلة تسد جوعه وتسدد دينه. لا أتوقع من هذا العامل أن يفكر كيف يطور من سير العمل، ولا أتوقع أنه يحب عمله، فهو لم يختره بكامل إرادته الحرة، بل فُرض عليه فرضاً. إن الاختلاف وتبادل الأفكار يجلبان الإبداع، أما الركود وعدم الإبداع فسببهما الخوف من إبداء الرأي في المسارات المهنية المختلفة. أشياء عظيمة وكثيرة في هذه الدنيا بدأت بفكرة مجنونة، مثل طيران الإنسان بلا أجنحة أو ريش، والأجسام المعدنية القادرة على السير وحمل البشر والأثقال دون خيول تجرها، نقل الصوت عبر العالم، الهبوط على سطح القمر.. هذه الأفكار احتاجت مبدعين على أرض الواقع، نشطين لا يقفون بسبب إخفاق أو فشل. فلابد أن نتعامل مع القضايا المطروحة للنقاش بمرونة وأن نحترم وجهات نظر الأفراد الآخرين، وندرك أنهم بين مؤيد ومعارض ومحايد، فكل رأي يحتمل الخطأ والصواب، الأمر الذي يجعل الحوار صعباً لعدم القدرة على التعاطي مع الأفكار والاختلافات بمنهجية صحيحة وأصول واضحة، فتتولد نزاعات لا فائدة منها، وبالتالي تتسع الفجوة وتظهر بوادر الفرقة والابتعاد، في الوقت الذي من حق الكل أن يقول ما يريد، ويعتنق من الأفكار ما يشتهي. وفي المقابل على الطرف الآخر أن يسمع ويقدر، لتنتج عن ذلك منهجية صحيحة محاطة بضوابط وأصول علمية، فيعيش الجميع جواً متجرداً من التجريح والإقصاء والحيدة والغموض شريطة أن تخلو الاختلافات في النقاشات ووجهات النظر من الجاهلين، لأن المرء الجاهل عندما يشارك في قضية ما لا يعرف من الحديث إلا ما يعتقد أنه الصحيح، فتراه يناقش ويدافع عن وجهة نظره بقوة وشدة وبدون حجة أو بينة مقنعة، متسلحاً برفع الصوت والانفعال والاستشهاد ببعض الأمثلة النادرة والشاذة لفقده ثقافة فن الحوار وحسن الإنصات وتقبل الرأي والرأي الآخر. وإذا كان الحوار سامياً تكون الحقيقة واضحة والرؤية ناضجة، فمن الواجب أن نتقبل أفكار الآخرين، ونتفهم وجهات نظرهم، ولا نتمسك برأي واحد، فحين نختلف لا يعني هذا أن أحدنا على خطأ والثاني على صواب، بل قد نكون جميعاً على صواب لأن كلا منا يرى من زاوية لا ينظر منها الآخر، فالذي يحترم وجهات نظر الآخرين يمتلك إمكانية تكوين رؤية أشمل وأكثر تكاملا للحياة، فكل وجهة نظر خاصة تستحق الاحترام، لأن كل إنسان له مفاهيمه ونظرته الخاصة به، والتي يبنيها كما يرى الحقيقة من وجهة نظره، فليس هناك من يمتلك الحقيقة المطلقة، بل كل منا يمتلك جزءاً منها. من أقوال الإمام الشافعي رحمة الله: كلامي صواب يحتمل الخطأ، وكلام خصمي خطأ يحتمل الصواب. ومن أصدق من الله قيلاً: «ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُو اعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُو اعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ». اكسر طوق الخوف وأخرج مكنونك ومواهبك للنور.