في السنوات التي تلت الهجوم الإرهابي الكبير على معاقل القوة السياسية والاقتصادية والعسكرية والأمنية في أحداث سبتمبر 2001 تضخم عدد البحوث والدراسات والمؤتمرات التي دارت حول التطرف الإسلامي، وما يؤدي إليه من إرهاب تحول ليصبح عابراً للقارات. ومن بين هذه الدراسات المتعددة دراسة موجزة، وإن كانت بالغة العمق، للباحث الأميركي «ستيف يونج» عن جذور التطرف الإسلامي في الشرق الأوسط. ويلفت النظر فيها عرضه المنهجي من ناحية وموضوعيته من ناحية أخرى، لأنه لم يتردد في محاكمة المواقف السياسية الأميركية فيما يتعلق بدعمها لدول شمولية أو سلطوية. ولاشك في أن تركيز هذا الباحث على ما يمكن تسميته باللاشعور التاريخي فيما يتعلق بعلاقات العالم الإسلامي بالغرب يدل على فهمه العميق لما للذاكرة التاريخية للشعوب العربية والإسلامية، بل والشعوب الغربية، من تأثير على تبني المواقف السياسية المعادية، والتي قد تتطور في سياقات تاريخية محددة إلى إرهاب موجه إلى دول غربية، وقد يطال جماهير غربية محددة كما حدث في واقعة مجلة «شارلي إيبدو» الفرنسية. وهنا يمكن التركيز على وقائع تاريخية محددة ما زالت حية نابضة في الذاكرة التاريخية، وإن كانت توارت إلى حد بعيد تحت ضغط الأحداث السياسية المعاصرة. ولعل أبرز الوقائع التاريخية هو الصدام الدامي في الحروب الصليبية مع العالم العربي، الذي مثل في الواقع غزواً مسيحياً منظماً لبلاد إسلامية. وقد دأب بن لادن، زعيم تنظيم «القاعدة» السابق، على التذكير بهذه الوقائع التاريخية الماضية في الفترة التي سبقت الغزو الأميركي للعراق، بعدما أعلن الرئيس الأميركي السابق جورج بوش الابن الحرب على الإرهاب، معلناً عن الاستعداد الأميركي للحرب ضد العراق، حيث قال بن لادن: «نحن نراقب بمزيد من الاهتمام والقلق الاستعدادات الصليبية لاحتلال بغداد وهي عاصمة سابقة للعالم الإسلامي، وذلك لنهب الثروة الإسلامية وتنصيب حكومة عميلة». وقد تحقق في الواقع ما تنبأ به بن لادن، لأن الولايات المتحدة الأميركية غزت بغداد بعد سقوط نظام صدام حسين، وسيطرت على النفط العراقي، وأقامت حكومة شيعية موالية لها، مما أدى في النهاية إلى تمزيق نسيج المجتمع العراقي، وبداية ظهور المليشيات العسكرية لمقاومة الاحتلال التي تحولت من بعد إلى حركات «جهادية» تكفيرية تزعمها «أبو مصعب الزروقاوي» وكونت مليشيات «داعش» بعد ذلك. وفي مجال تاريخ العداء الغربي الإسلامي لا يمكن للشعوب العربية والإسلامية أن تنسى أن إنجلترا هي التي أصدرت «وعد بلفور» الذي كان الأساس في تأسيس دولة إسرائيل الصهيونية، مما أدى إلى احتلال فلسطين وتشريد الشعب الفلسطيني. وإذا أضفنا إلى ذلك أن الدول الغربية، وفي مقدمتها الولايات المتحدة الأميركية، دعمت سياسياً بعض النظم الشمولية والسلطوية تحقيقاً لمصالحها الاقتصادية، سندرك أن شبكة الوقائع التاريخية الماضية يمكن اعتبارها أحد المصادر الأساسية للتطرف الإسلامي. وأهم من هذه الوقائع التاريخية العوامل التي تتعلق بالحاضر، والتي يمكن تقسيمها إلى عوامل سياسية، وعوامل اجتماعية واقتصادية، وعوامل جيوبوليتيكية، وعوامل دينية وأخيراً عوامل ثقافية. وإن شئنا أن نوجز أبرز هذه العوامل في عبارة جامعة -وإن كانت لا تغني عن التفصيل- لقلنا إن أبرزها هي الديكتاتورية والفساد وغياب الديمقراطية، وخصوصاً تطبيق آليات الديمقراطية التي تتمثل في صناديق الانتخابات من دون قيمها وأهمها القبول الطوعي بتداول السلطة وذلك من الناحية السياسية. أما في الجوانب الاجتماعية والاقتصادية فإن عدم العدالة في توزيع الثروة، بالإضافة إلى غياب دور مؤثر للطبقة الوسطى في عملية اتخاذ القرار على الصعيد السياسي والاقتصادي والاجتماعي هي أبرز العوامل. أما من الناحية الجيوبولوتيكية فلاشك في أن ما عمدت إليه الدول الغربية من زرع إسرائيل في قلب العالم العربي، وما ترتب عليه من الاستعمار الاستيطاني لفلسطين وتشريد الشعب الفلسطيني، هي أبرز هذه العوامل. ولاشك أن العوامل الدينية من أعمق أسباب شيوع التطرف، وأخطرها على الإطلاق انتشار الاتجاهات الأصولية المتشددة التي تجد مصدرها أساساً في الماضي ممثلة في فقه التشدد القديم، وفي الحاضر نجد منبعها في الفكر التكفيري لـ«الإخواني» المصري «سيد قطب» الذي ذاعت نظرياته عن «جاهلية» المجتمعات الإسلامية الراهنة وضرورة الانقلاب عليها. وتبقى أمامنا الأسباب الثقافية، وأبرزها على الإطلاق في بدايات القرن العشرين الرفض الإسلامي للحداثة الغربية، باعتبار أن تطبيق مبادئها يمكن أن يشوه بل ويمحو الشخصية الإسلامية التقليدية. أما في الحقبة الراهنة فإن العولمة التي تطمح إلى تأسيس نسق عالمي للقيم يهيمن على سلوك الشعوب المختلفة أصبحت تمثل خطراً داهماً على الخصوصية الإسلامية كما يعرّفها أعضاء الجماعات الإسلامية المتطرفة. -------- كاتب ومفكر - مصر