مثلت هجمات كوبنهاجن نهاية الأسبوع الماضي، وقبلها عملية باريس، إيذاناً بظهور جيل جديد من الجهاديين، له هدف مختلف هذه المرة يتمثل في استهداف أوروبا التي يعتبرها الإرهابيون خاصرة الغرب الرخوة، لذا راحوا يعتمدون لبلوغ هذا الهدف على قتلة استقطبوا من أوساط الشباب المهمش المنحدر من أصول عربية وأفريقية، لكنهم ولدوا وترعرعوا في أوروبا. لكن الموجة الجديدة من الجهاديين ولدت من رحم موجتين سابقتين، أولاهما في ثمانينيات القرن الماضي بأفغانستان لتنتقل بفروعها المختلفة إلى الجزائر ومصر والبوسنة والشيشان بهدف واحد هو ضرب الأنظمة الموالية للغرب، لكنهم فشلوا فشلاً ذريعاً لعدم تمكنهم من حشد وتعبئة جماهير غفيرة من المسلمين تحت لوائهم. ثم ظهرت الموجة الثانية من الجهاديين بزعامة «القاعدة»، متخذة من الولايات المتحدة هدفاً رئيسياً، على افتراض أن الهجوم على الشيطان الأكبر سيعبئ المسلمين، وهو ما جرى بالفعل في هجمات 11 سبتمبر. ورغم الضربات التي طالت مناطق ومدن متعددة، مثل بالي بإندونيسيا ومدريد ولندن، فإن هذه الموجة الجهادية -وعلى غرار سابقتها- فشلت في استمالة عموم المسلمين، بل إن تلك الهجمات لم تسهم سوى في تمتين عزيمة الغرب على مواجهة التنظيمات الإرهابية ودعم الأنظمة المتستبدة التي اعتبَرها حاجز الصد الأول ضد «القاعدة». كما أن عملية 11 سبتمبر مكنت بوش من حشد التأييد وتعبئة الموارد المالية لخوض عقد كامل من الحرب على الإرهاب. لكن المقاربة التي انبنت على محاربة الغرب، وبالتحديد استهداف أميركا، سرعان ما تعرضت للمراجعة والنقد على يد أحد كبار منظري «القاعدة» المدعو «أبو مصعب السوري»، حيث رصد محدودية تلك المقاربة وتوقع سقوطها، طارحاً بدلا منها استهداف أوروبا التي تبقى في جميع الأحوال أقرب إلى ساحة العمليات وأضعف من أميركا، فضلا عن أن أوروبا تمثل بيئة خصبة لتجنيد الملايين من المسلمين الأوروبيين، أو المهاجرين، أو حتى المعتنقين الجدد للإسلام. بيد أن تغيير الهدف المراد ضربه لم يكن التعديل الوحيد الذي أدخلته الموجه الجهادية الثالثة على الاستراتيجيات القديمة، بل أضافت إليها تغييراً في البنية التنظيمية، حيث اقترح «السوري» توسيع قاعدة الهرم والاستقلال في تنفيذ الهجمات. ومما أضافه منظّر «القاعدة» وقف تجنيد عناصر من الخارج لضرب أهداف أوروبية، حيث سعى للتركيز على التجنيد من داخل أوروبا نفسها بعد إخضاع العناصر المستهدفة لعملية غسيل دماغ ممنهج يقتنعون على إثرها بالأفكار المتطرفة. وكان الهدف أيضاً تعميق الشرخ الثقافي داخل الغرب نفسه، وبخاصة بين المسلمين والأغلبية المسيحية، محدداً ثلاثة أهداف أساسية هي: اليهود والمثقفون الليبراليون المسلمون المناهضون للأيديولوجيات الدينية، وأخيراً عموم المسلمين ممن يراهم المتطرفون مرتدين، على غرار العناصر التي تعمل في صفوف الشرطة والجيش. ففي عام 2012 قتل «محمد مراح» جنوداً فرنسيين بدت ملامحهم وكأنهم ينحدرون من شمال أفريقيا، وبعد عامين على ذلك هاجم «مهدي نموش» متحفاً يهودياً ببروكسل، كما أن ضحايا عملية باريس كانوا صحفيين نشروا رسوماً مسيئة للرسول محمد، وأيضاً متجراً لليهود، فضلا عن استهدافهم لشرطي من أصول جزائرية. أما هجوم كوبنهاجن فاستهدف حلقة نقاشية تتداول في أمور حرية التعبير، فيما استهدفت العملية الأخرى في الدنمارك كنيساً يهودياً. هذه النظرية الجديدة التي أسست للموجة الجهادية الثالثة ضمّنها «أبو مصعب السوري» في كتاب صدر في ديسمبر 2014 عندما كان في مخبئه بباكستان قبل أن تعتقله القوات الأميركية وتسلّمه لنظام الأسد. لكن تلك النظرية اعتقد البعض، مع هبوب رياح ما يسمى «الربيع العربي»، أنه ما عاد لها وجود في ظل التحولات الجارية في الشرق الأوسط واستبشار بعض المحللين بمجيء الليبرالية الديمقراطية إلى المنطقة. والحقيقة أن ما حصل من فوضى وعنف، لاسيما على أرض سوريا، موطن «أبو مصعب السوري»، خلق الظروف المواتية لتطبيق نظريته على أرض الواقع. فالجيل الثالث من الجهاديين بات يتوفر على أرض معركة تمتد عبر العراق وسوريا ويسيطر عليها تنظيم «داعش»، وهي منطقة لا تبعد عن أوروبا سوى بضع ساعات، ولا تفصلها عن باريس وبروكسل ولندن سوى رحلة طائرة بكلفة منخفضة. هذا ناهيك عن سهولة العودة بالنسبة للأوروبيين الذين شاركوا في المعارك وقرروا الرجوع إلى مواطنهم. لكن مع ذلك يحمل الجيل الثالث من الجهاديين مكامن الضعف والتضعضع، فهو أتاح -وعلى نحو غير مسبوق- فرصة التعرف إليه من خلال منشوراته على شبكة الإنترنت، ثم إن الوحشية التي أظهرها أدت إلى انقلاب المسلمين على تكتيكاته الموغلة في الدم. ولعل تصعيد الأردن ضد «داعش» بعد إحراق الطيار الأسير خير دليل على ذلك. ----------- ينشر بترتيب خاص مع خدمة «نيويورك تايمز»