لعل الخطوة الأولى في العلاج الطويل من «الداعشية» المقيتة التي عششت في بعض جوانب حياتنا الثقافية والسياسية والاجتماعية هو الاعتراف بوجودها. «الداعشية» ليست «داعش» فحسب، فهذه الأخيرة إنما هي التمظهر الأبشع للمرض السرطاني. «الداعشية» هي الفكر المتطرف والإقصائي والاستئصالي الذي يمتد من المناهج المدرسية في بعض البلدان العربية، متجسداً في انتشار فكر «ذهنية التحريم» التي تشل العقل والإرادة وتحول الملايين من الناس إلى إمعات وتابعين عميان لهذا المفتي المتوتر أو ذاك. علينا أن نعترف بأن التعاطف الضمني أو العلني مع «داعش» موجود لدى البعض، وربما لم يزحزحه بشكل قوي إلا الجريمة البشعة التي أقدم عليها الأخير بحرق الطيار الأردني معاذ الكساسبة. «كيف وصلنا إلى هنا»؟ هو السؤال الذي ينبغي ألا يتركنا ننام، وكيف صار القتل والدم وإزهاق الأرواح جزءاً من «ديننا ودنيانا» بحسب فهم المتطرفين المنحرفين، نتجادل في مقدار الدم وكيفية الذبح! بعد الاعتراف بمظاهر «التدعش» في حياتنا التي ظلت تنتشر كالوباء المدمر خلال العقود الماضية، علينا أن نستأصل الأصول والجذور الفكرية والثقافية والدينية لـ«الداعشية»، وعلى رأسها الفكر المتعصب ومناهج بعض فقهائه الراهنين والقدماء. لا يتبع مجرمو «داعش» ما أُوثر عن النص القرآني أو النبوي أو الراشدي في عدم قتل الأسرى أو التمثيل بالموتى، ولا محاربة متصومع هنا، أو مترهبن هناك، بل وحتى التأنف عن إيذاء الشجر والنبات، فضلاً عن النساء والأطفال وغير المحاربين، بل يتبعون من الفتاوى المنحرفة القديمة أو الجديدة، أسوأها. ثمة تلذذ بالدم وبالتفنن في القتل، ذبحاً، أو رمياً من الأسطح أو تفجيرَ الرصاص في الرؤوس جماعة... والآن حرقاً سينمائياً يدلل على اختراق التوحش كل أسقف التوقعات. لا يرى متلذذو الدم سوى الدم، وينقبون في تاريخ شاسع حوى كل شيء، كي يصلوا إلى مسوغ ما عبأوا به أصلاً. لم يصل «داعش» أيٌّ من نصوص ومصنفات مئات فلاسفة العرب والمسلمين الذين أسست أفكارهم لاستنارة أوروبا، ولكن وصلتهم فتاوى التعصب والذبح ونقمتها وتشددها. يتهدد هذا التشدد مصائرنا نحن عرب ومسلمي القرن الحادي والعشرين، ويسيطر على مناهج تفكير البعض في زمننا ويفرد فتاواه في طول وعرض مجتمعاتنا. يُصدر التعصب أوامره في كل الاتجاهات، فتصطف طوابير الناقمين والمتعصبين، وبوصلتهم هي الدم ليس غيره. و«النظرية» المؤسسة والهادية للفكرة «القاعدية» و«الداعشية» تفيض بفكر (وتكفير) فقهاء التعصب، وتقوم على قتل «المنافقين المسلمين» أولاً، قبل الوصول إلى «الأعداء». ومن ليس في الصف «الداعشي» هو في نظرهم حكماً في صف «المنافقين»! وممن لا يجوز معهم سوى «جز الرقاب». على «الدواعش»، إذن، إبادة أكثر من مليار مسلم واحداً وراء الآخر حتى «تتطهر الصفوف» وتكون جاهزة بعدها لإبادة «الأعداء». ليس هنا عقل يمكن أن يحسب الزمن ويتأمل المكان أو يستعمل «الرياضيات». لا يندرج هذا في أي سياق منطقي، يندرج في سياق الدم فحسب. أفواج من المتوترين، والمرضى، والمأزومين نفسياً، والفاشلين في الحياة، والمهمشين، والحاقدين على مجتمعاتهم، والمتراكمة في دواخلهم كل آفات القهر والانحطاط، والهروب من مواجهة الحياة، يأتيهم العنف على قاعدة فضية من التدين المزيف والمشرعن. عوض أن يكونوا في المشافي، تجمعوا وأطلقوا العنان للسكاكين لكي تجز الرقاب، وخلفهم صيحات التعصب تشد من أزرهم. نص الدم ليس «داعشياً» حصرياً. بل يمتد كالسرطان المدمر في فضائنا الديني والثقافي والمدرسي. فقه الغلو والتطرف القديم وكتبه وفتاواه منثورة في كل مكان، وجاهزة لإثارة الدم. وإن لم يكن الدم فهي تؤسس له، وتخلق المناخ الملائم والجاهز للحقد والتعصب والكراهية وكل شيء.