بعد أن وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها، وقّعت اليابان في عام 1951 على معاهدتين في مدينة سان فرانسيسكو في الولايات المتحدة. المعاهدة الأولى مع مجموعة دول الحلفاء، وقد تنازلت اليابان بموجبها عن حدودها الإمبراطورية التي رسمتها لنفسها قبل الحرب وكانت تمتد حتى شمال الصين. وكان هذا التنازل نتيجة من نتائج الهزيمة في الحرب. ومع ذلك رفع كثيرون في ذلك الوقت، الصوت معارضين، وكان من بينهم جدّ رئيس الحكومة الحالي «شينزو آبي». الذي كان يعتبر واحداً من مجرمي الحرب. أما المعاهدة الثانية فكانت مع الولايات المتحدة، وقد حصلت واشنطن بموجبها على حق الاحتفاظ بقواتها العسكرية في اليابان وحولها للدفاع عنها عند الحاجة. وفي عام 1960 أعيد النظر في هذه المعاهدة بحيث منحت اليابان حق إنشاء وحدات عسكرية محدودة للدفاع عن النفس. والتزمت الدولتان أيضاً بالتعاون في الردّ العسكري على أي عمل يستهدف أرضاً تابعة لإدارة السلطة اليابانية. وفي عام 1960 أدخل تعديل إضافي على المعاهدة أعطى اليابان صلاحيات أوسع في حركة الدفاع عن النفس. ولا تزال هذه المعاهدة سارية المفعول، إلا أن الأمر الذي تغير، أو في طريقه إلى أن يتغير، هو توسيع رقعة الأراضي التابعة لإدارة السلطة اليابانية. الأمر الذي يفتح صفحة جديدة في تاريخ الصراع السياسي- العسكري في أقصى الشرق الآسيوي. فقد رفع رئيس الحكومة شعار «ريودو» وهي كلمة يابانية تعني الأرض الموروثة أو «أرض الأجداد». والأرض الموروثة تشمل: - جزر سيكاكو التي تطالب بها كل من الصين وتعرف لديها باسم جزر «دايو» و«دايو تاي». - جزيرة ناكوشيما التي تطالب بها كوريا الجنوبية وتعرف لديها باسم «دوكدو». وقد أقامت فيها اليابان حامية بوليسية منذ عام 1945. - جزر كوريل الأربع في شمال شرق «هوكايدو» ويطالب بها الاتحاد الروسي. وبالفعل فقد استوطن فيها الروس -20 ألفاً- منذ عام 1945. ولا يبدو أن مطالبة اليابان بهذه الجزر التي تفتح أبواب الصراع مع جيرانها (روسيا والصين وكوريا) هو لأسباب وطنية فقط. ذلك أن الدراسات الدولية والأميركية الموثقة تؤكد أن حجم الثروة من النفط في شرقي بحر الصين يقدر بحوالي 200 مليون برميل، إضافة إلى نحو ملياري قدم مكعب من الغاز. أما جزر الكوريل البركانية فهي غنية بمادة «رينيوم» وهي مادة نادرة جداً وتشكل ثروة بالنسبة لصناعة محركات الطائرات النفاثة. كما أن الجرف القاري بين اليابان وكوريا يحتوي على كمية ضخمة جداً من المواد المعدنية الأخرى. وعندما بدأت اليابان في عام 2003 استخراج كميات من النفط والغاز، أعلنت بشيء من الفخر والاعتزاز القوميين: «الآن أصبحنا ننتج ولو جزءاً من حاجتنا من الطاقة». ومن المعروف أن اليابان أنفقت في عام 2012 ما مجموعه 250 مليار دولار على استيراد الطاقة من الخارج. ولكن هل تسمح دول الجوار لها بتوسيع حدودها عملاً بالشعار الجديد «ريودو»؟ يضع الزعيم الياباني نصب عينيه هدفاً قومياً يعتبره مقدساً هو استعادة حجم اليابان السياسي والمعنوي. وهذا يتطلب طي صفحة الحرب العالمية الثانية بنتائجها التي قلّصت حدود الإمبراطورية وقزّمتها، وفرضت عليها سقفاً منخفضاً للتسلح وبناء قوات مسلحة. مون هنا فإن عبارة «ريودو» ليست مجرد شعار رفعه رئيس الوزراء «آبي». فوزارة الخارجية اليابانية رسمت خريطة وطنية جديدة لليابان تشمل كل المناطق المتنازع عليها مع دول الجوار، ونشرتها على موقعها الإلكتروني منذ شهر أبريل من العام الماضي وباثنتي عشرة لغة مختلفة! وقد أحيت هذه المبادرة اليابانية مشاعر القلق في شرق آسيا من الطموحات اليابانية. واستعادت دول الجوار ذاكرة الحرب العالمية الثانية وما قبلها، حيث تعرضت لتوسع ياباني عسكري عنيف. وتعتبر هذه الدول أن مبدأ «ريودو» الياباني ينتهك المبادئ التي أقرتها معاهدة سان فرانسيسكو 1951 للسلام التي أنهت الحرب العالمية الثانية.. وأن عودة اليابان إلى حدود ما قبل هذه المعاهدة الدولية، هي في حقيقتها عودة إلى حال ما قبل التسوية السلمية. فقبل الحرب العالمية الثانية تورطت اليابان في حروب مع كل من الصين وروسيا وكوريا. وخلال تلك الحروب رسمت خريطتها السياسية - الوطنية التي يريد رئيس الوزراء الياباني الآن، العمل على استعادتها وإلزام المجتمع الدولي بها. ويجري الآن تعديل الدستور الياباني بحيث ينص ليس فقط على هذه الحدود الجديدة، ولكنه أيضاً على التزام كل مواطن ياباني بالدفاع عن هذه الحدود براً وبحراً وجواً. لقد انطلقت لعبة أمم جديدة في شرق آسيا أبطالها اليابان والصين وروسيا والولايات المتحدة. فأي مستقبل ينتظر هذه المنطقة.. وأي نظام عالمي سيقوم نتيجة لها؟