يقول أحد الحكماء: الإنسان هو الكائن الوحيد الذي يرى الشيء بما يريده هو لا بما الشيء عليه حقاً.. أي أن الإنسان يرى ما يريد ولا يرى ما ينبغي ويجب أن يراه. ويقول آخر: نصف الحقيقة كذب كامل. ونحن العرب بالتحديد انطباعيون ولسنا عقلانيين.. والإنسان الانطباعي متحيز في رأيه وفكره.. وهو الذي اتخذ إلهه هواه.. أي والله. «أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ» (سورة الجاثية: الآية 23). تلك هي الطامة الكبرى -عبادة الهوى- وعبدة الهوى هم سرطان هذه الأمة وداؤها العضال. والخطاب المسيطر على الأمة في كل مجال هو خطاب الهوى.. لا توجد قناعات ولكن توجد أهواء معبودة من دون الله عز وجل. وقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به». ولكن الأمة مثل قرية قوم لوط مقلوباً فكرياً وقلبياً.. وأشد العذاب أن يجعل الله عالينا سافلنا وأن يجعل سافلنا عالينا.. أن يفكر الناس ويحبوا ويكرهوا ويتدينوا بشقهم الأسفل وأن ينتعلوا عقولهم ورؤوسهم وقلوبهم.. أن يروا سبيل الغي فيتخذونه سبيلاً وأن يروا سبيل الرشد فلا يتخذونه سبيلا. وهناك ضلالان -ضلال الشيطان.. أن يضل الشيطان أولياءه فتراهم عن الحق ناكبين.. والضلال الأخطر والأدهى والأمر هو أن يضل الله عز وجل هؤلاء الذين غضب عليهم فأعماهم وأصمهم.. وذهب الله تعالى بنورهم والنور يعني الهدى ويعني العقل والقلب واللب والبصيرة -هؤلاء تراهم ينظرون إليك ولكنهم لا يبصرون- لهم عيون لا يبصرون بها وآذان لا يسمعون بها وقلوب لا يفقهون بها. هم كالأنعام بل هم أضل سبيلا. والذي يضله الشيطان ويذله هناك أمل في هدايته.. لكن الذي يضله الله فلا أمل في هدايته.. فمن يهدي من أضل الله؟ والأسوأ من يضله الله فيضل الناس بعلم.. أخطر الناس عالم يضل الناس بعلمه وداعية يضل الناس بدعوته وقاض يضل الناس بقضائه.. والأسوأ والأخطر من الجميع أن يكون الضلال جماعياً وعبادة الهوى عامة.. أن يصبح الهدى شذوذاً واستثناءً وأن يصبح الضلال قاعدة.. وألا يقبل الناس إلا من يضلهم وأن يرفضوا من يهديهم وأن يستعذبوا الكذب والبهتان.. وأن يكون أعذب حديثنا أكذبه وأن يتحكم في فكرنا الرويبضة وأراذلنا بادي الرأي وأضلنا سبيلا. وعندما يصبح عالي الأمة سافلها يقلبون حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به أو بعثت به»، فيصبح ما جاء به الرسول الكريم تابعاً للأهواء -بل ويصبح النص القرآني نفسه تابعاً للأهواء- ويصبح تفسير الدين ديناً.. وهو ما يحدث الآن من الإرهابيين، حيث أصبح تفسيرهم وتأويلهم للإسلام هو الإسلام.. وصار الإسلام وخطابه تابعاً للأهواء التي يعبدها هؤلاء من دون الله.. هؤلاء لم يضلهم الشيطان ولكن أضلهم الله.. وهذا هو الاستدراج الرباني لمن أضلهم الله.. إذ يفسدون في الأرض ويتوهمون أنهم مصلحون وضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا. ولا أمل في إصلاح أي خطاب طالما بقي المتلقي على فساده وضلاله، وطالما ظل الهوى رباً معبوداً من دون الله عز وجل، فالخطاب الكاذب والضال المضل هو الرائج، وأكذب الناس في هذه الأمة هم الذين يكذبون باسم الله ورسوله.. لذلك هم الأكثر نجومية وشهرة على المواقع الإلكترونية.. لأن الخطاب الكاذب باسم الله ورسوله هو الذي يلقى الرواج والذيوع.. ولأن الصدق والموضوعية ليس لهما زبائن في السوق العربية.. أنت وأنا وكلنا يشدنا خطاب اللامنطق واللامعقول.. خطاب الهلاوس والغيبيات والضلالات والوساوس القهرية.. أنت وأنا وكلنا يبهرنا خطاب الحمقى والمجانين والمرضى النفسيين الذين صاروا قادة الفكر والرأي والممارسات الإرهابية في هذه الأمة التي صارت منكوبة بالمرسِل والمتلقي والرسالة.. وأسوأ الثلاثة المتلقي الذي يصدق الكذب ويكذب الصدق واتخذ إلهه هواه. نحن ندعم الإرهاب ونموله حين نعطيه عقولنا ونمشي حفاة.. حين نصدق أنه يتحدّث باسم الله.. حين نتعاطف ونؤيد من يسميهم المصريون في عاميتهم زوراً وبهتاناً «بتوع ربنا».. وهم في الحقيقة أهل الهوى والشيطان.. لقد بلغ الأمر في مصر مثلا حد التصويت لـ«الإخوان» ومَن لف لفهم ودار في فلكهم الإرهابي على أساس أن هذا التصويت كفارة للذنوب وتطهر من الآثام! هناك أناس سبقوا الشيطان نفسه في انحرافاتهم السلوكية وعوارهم الأخلاقي وتدنيهم وسفالاتهم أعطوا «الإخوان» الإرهابيين أصواتهم وقالوا لي بألسنتهم «هذه محاولة للتكفير عن ذنوبنا لأنّ هؤلاء بتوع ربنا»! أرأيت كيف يخادع هؤلاء الله ولكنهم لا يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون! هل صدقت أن المشكلة في القطيع المتلقي قبل أن تكون في المرسل أو في الرسالة؟ إذا وصلت إليك الرسالة البهتانية الإرهابية المضلة وأقنعتك فأنت الضال وأنت المخدوع.. الأمر ليس ذكاء الخادع ولكنه غباء المخدوع.. الأمر ليس دهاء النصاب والمحتال ولكنه بلاهة وغفلة المنصوب عليه وضحية الاحتيال والطماع.. وعندما يقول لك نصاب ما: إنك ربحت معنا مليون دولار.. وما عليك إلا أن ترسل خمسة آلاف دولار لتحصل على المليون وتصدقه وتقع في شراكه، فأنت الأبله.. أنت الأحمق وليس هو الذكي. كذلك عندما يلفني إرهابي بحزام ناسف ويرسلني لأفجر نفسي في موقع ما أو في مجموعة من البشر ويؤكد لي أنه يزفني إلى الجنة وأن هذا الحزام الناسف هو الذي سيتحول يوم القيامة إلى قصر لي في الجنة.. وعندما أقتنع أنا فإنه ليس ذكاء الإرهابي، ولكنها غفلتي وبلاهتي ومرضي النفسي.. وقد وقع الأمر في أمة العرب.. وقع الذي حذر منه أحد الحكماء قائلا: إذا كان علمنا عند جهلائنا وما لنا عند بخلائنا ورأينا عند سفهائنا فقد وقع الأمر.. وقعت الواقعة.. واتسع الخرق على الراقع والراقعة!