في ليلة التاسع والعشرين من شهر ديسمبر عام 1914 كانت الساعة تشير إلى الثانية والربع فجراً، عندما جرت محاولة الاغتيال الأولى في مدينة «بوكروفسكو» للراهب الروسي «جريجوري بيفموتش» القادم من سيبيريا، الذي اشتهر باسم «راسبوتين» في بلاط القيصر نيقولا الثاني آخر الأباطرة الذين حكموا روسيا القيصرية قبل نشوب الثورة البلشفية وبداية عهد الشيوعية السوفييتية اللاحقة. ومن الغريب أنها هي اللحظة نفسها التي جرت فيها أيضاً محاولة اغتيال «فيردناند» ولي العهد النمساوي بيد عصابة «الكف الأسود» الصربية في سراييفو، التي أطلقت شرارة الحرب العالمية الأولى، ويبدو توافق التوقيت خاصة إذا أخذنا في عين الاعتبار أن هناك فارق خمسين درجة طول بين المدينتين. ويعقب الكاتب «كولن ولسن» على هذا قائلاً إنها: «مصادفة عجيبة أن يشهد التاريخ محاولتين للاغتيال في اللحظة ذاتها تقريباً، وهي مصادفة قد تجعل المرء ميالًا للشك بعمى التاريخ». كانت مدينة «بطرسبورج» الروسية يومها في ذروة الانحطاط الخلقي وكان «راسبوتين» يقضي وقته بين الخمر والمجون والإيحاء لبعض قاصري العقول بأنه يوحى إليه! ومن أعجب ما ذكر التاريخ أنه قد كتب وصيته على شكل نبوءة للقيصر قال فيها «إن كان قاتلي من أهلك فلن يبق منك ومن ذريتك أحد حياً في سنتين بعد موتي، وسيكون قاتلكم شعبك الروسي». وقضي فعلاً على العائلة المالكة بكاملها في «كاترينبورج» عام 1918. واندلعت حرب أهلية في عموم روسيا القيصرية هلك فيها الملايين، وهربت طبقة النبلاء تاركة روسيا لأكثر من 25 سنة. إن كل مغزى التاريخ يقوم على انزلاق الأحداث بين قطبي «الخبث» و«الغفلة». وعندما يجتمع الخبيث مع المغفل فإن مسرح الأحداث يكون عادة عامراً بالقصص المسلية. يقول المؤلف «هربرت ويلز» في كتاب «معالم تاريخ الإنسانية» عبارة ذات مغزى في هذا المقام: «إن نظام الكون الاجتماعي يعاقب المغفلين كما يعاقب المجرمين». وتتولد من هذا القانون ثلاث حقائق: أن الكون يقوم على نظام اجتماعي كما في فيزياء الذرة وبيولوجيا الخلية. وأن التاريخ يعاقب «المغفلين» كما يعاقب «المجرمين» لأن نظام الكون الاجتماعي قابل للارتداد بمعنى ما إلى الوراء. وأن من غفل عن سنن الحياة والكون لا تغفل هي عنه. وبالنسبة «للمغفلين» فقد ظهرت أمثلة من التاريخ القريب كحرب الخليج الأولى التي اتسمت بكثير من العنف، وامتدت في الزمن أكثر من الحرب العالمية الثانية، وحصدت أرواح مليون شاب، وأحرقت 400 مليار دولار، وخرجت كل من العراق وإيران بعبث كامل. وأما قصص «الخبثاء» فيمكن رؤيتها في ظاهرة الاستعمار ومن زاويتين أخلاقية واجتماعية. ويشرح المفكر الجزائري مالك بن نبي هذا فيقول: إن الاستعمار مدان لأنه سارق ومجرم. ولكن يمكن النظر إلى الاستعمار من زاوية تاريخية أنه جيد أحياناً وفيه خير وهنا وجه الغرابة! فالاستعمار جاء وانتزع منا لقمة الخبز اليابسة التي كنا نقتات بها واضطرنا أن نمشي على طريق الأشواك والآلام تحت لسع القمع ولكن لولا مجيء الاستعمار وانتهابه لكل ما نملك وانتهاكه لكل حقوقنا لما اضطررنا أصلاً إلى اليقظة، ولبقينا نضرب الرمل ونزمر لأفاعي «الكوبرا» المتمايلة ونبلع الزجاج والخرافات، ولكن مجيئه كان رحمة غير مباشرة فاستيقظنا على الصفعة المجلجلة. وقصة «داعش» وماعش وحالش وفاحش قصص مسلية وإن كانت كوميديا سوداء ودموية، من نفس النوعية. والأمر مأساوي أيضاً أن يكون في هذا العصر أشخاص يفكرون بنفس المنطق المنحرف المتطرف الظلامي، أليس كذلك؟ وكما يقول أرسطو إن من يتأمل التاريخ يراه كوميديا ومن يحاول التفاعل والتأثر بها تتحول إلى تراجيديا!