قد تعتبر مسألة الهروب للأمام باسم العقل ونقد العقل فعلاً مجرداً يتغير بتغير الزمان والمكان ومجال المعرفة وتطورها. لكن نقد المعرفة بحد ذاته هو معرفة، والتفريق بين العقل والوعي والفهم لا يجعل هناك عقلين متشابهين بالضرورة. فالعقلانية تعني شيئاً مختلفاً على مرّ العصور واختزال التنوير في نقد جذري اجتثاثي لكل ما هو منافٍ للقيم المعولمة والقوانين والأعراف الدولية المعاصرة غلو غير مبرر. فالشخص المنبهر بأضواء آتية من الماضي ويرى في تخطيها تجاوزاً غير مقبول للتسلسل المنطقي لرحلة التنوير والفكر، هو شخص تقليدي لا يصلح لقيادة دفة التنوير، ولن يستطيع التعايش إيجابياً مع معطيات عصر العقلانية التكنولوجية وقبول النماذج التنويرية التي تصادم معتقداته. ومن منطلق آخر، يقع التنويريون العرب الجدد في هوس التصالح مع الماضي والتخلص مما علق به مما يرونه غير جدير بالحداثة، وبعضهم يلبس المفاهيم الغربية لبوس الإسلام وأحياناً يصف اللادينية بالتنوير بدلاً من الانشغال بهشاشة التكوين في صناعة النسخة العربية من التنوير والحداثة، التي ينبغي أن تنبعث من الواقع المعاصر واستشراف المستقبل. لكنهم لا يفعلون أكثر من محاولة لأنسنة بعض جوانب تروق لهم من التراث دون التفكير في أن عصرنته قد تعني هدمه من الأساس، وأن الوقت قد حان لميلاد ميراث جديد قابل للنقد والتحليل والإضافة، بما يتناغم مع عصور ما وراء المعرفة! على التنويريين العرب أن يدركوا أنهم إلى يومنا هذا لم يقدموا جديداً، والحديث عن النهضة وكسر الجمود ليس له قاعدة جماهيرية ومعرفية أو حتى مرتكزات نخبوية مستنيرة. فلا تنوير دون وعي معرفي متنوع لدى المثقف والمفكر والسياسي ورجل الدين المتنور لمخاطبة فئات المجتمع بصور ابتكارية متنوعة. هذا مع أهمية دعم الحكومات للاتجاه التنويري المبدع. لكن بعض المجتمعات والقيادات السياسية والدينية والفكرية والعلمية.. تريد نقل علوم ومعرِفة وتكنولوجيا الغرب، وليس الفلسفة العميقة التي تقف خلفها. وهنا لست من دعاة فرض وصاية على العقل من خارجه حتى يصبح تنويرِياً، بل أعتقد بجدوى أن يكون التنوير نتيجة مخاض فكري يعكس بيئة الحوار التنويري المحلي، بروح إنسانية عامة وبعيداً عن خرافة كونِيَة التنوير المحصورة في المورث الفكري الغربي. لكن لا ينبغي إهمال الدروس المستفادة من تاريخ التنوير الغربي، ولتكن مراجعة المورِث الديني والفكري والأدبي العربي دون قيود وتحفظات، رغم من غياب البنية التحتية للنقد في المجتمعات العربية، ورغم أحادية الطرح حول الفكرة الإنسانية في الفكر الإسلامي، ورغم العنف الفكري الذي تحول لرايات سوداء، ورغم اتساع الفجوة بين المفكر والشارع. لقد تمثل التنوير تاريخياً في حركة قامت لإنهاء سطوة المورث الديني على المجتمع وللدفاع عن العقلانية ومبادئها كوسائل لتأسيس النظام الشرعي للأخلاق والمعرفة في العصور الأوربية المظلمة، وهو ما لا ينطبق تاريخياً على المجتمعات العربية اليوم. فالمشكلة ليست في الدين وسيطرته على السلطة، بقدر ما هي في تقديس ما أنتجناه ضمن فهمنا للدين أو نسبناه لثوابت الدين، بجانب المشكلة الأساسية متمثلة في تمكن بعض أوجه التقليد بكل أنواعها وتجذيرها في نفوس وعقول أفراد المجتمع، حتى جاء الاستعمار الأوربي ليعززها ويراهن عليها كحرب استعمارية ناعمة تنخر في كيان الفرد والمجتمع. لذلك فإنه قبل إصلاح ومراجعة الموروث الديني، يتعين السؤال حول إصلاح جزء كبير من ثقافة وعقلية وقيم المجتمع، التي لم ينجح معها تنوير ولا معرفة ولا دين. الإشكالية الأخرى تكمن في الميكنة التنويرية التي جعلت التنوير أقرب لنموذج الوجبات الجاهزة والسريعة، مما أدى لعزلة وانكماش الخطاب التنويري الحقيقي. لذلك يعدّ ضمور ثقافة التنوير العربية نتيجة طبيعية للفشل في الوصول لنقطة التوازن والوسطية في مجتمعات تعاني مرض الأفراط في جزيئات معينة من الحرية والحرمان شبه الكلي من بعض مكوناتها الأخرى.. لينتهي بنا الأمر إلى اللجوء فقط لتقليد ثقافة المركز التنويري والانشغال بتراث الحداثة. فهل سننجح كعرب في تحقيق الانعتاق التنويري دون تغريب، متأرجحين بين واقع قائم وطموح مشروع؟