قتل مقابل قتل، وموت مقابل موت. هي عودة إلى قانون العين بالعين والسنّ بالسنّ، كما أشار إلى ذلك الرئيس الألماني، وكما بتنا نعرف جميعاً بالحدس والملموس. إنه مؤشر آخر على الوحشية والهمجية، وفقاً لمعظم ردود الفعل. جريمة بشعة، خلافاً للقتل العادي الذي لا نراه. عمل خارج الأعراف المتحضرة. خارج إطار قوة التصور البشري. عمل بربري جبان همجي بشع. إرهاب «داعش» جرائم نازية. لم يهتم تنظيم «داعش» لهذه الأوصاف التي توالت في استنكار عالمي لجريمته المتمثّلة بإحراق الطيار الأردني معاذ الكساسبة، وهو أسير لديه. لكنه توقف عند القول بأن هذا العمل يتناقض مع قيم الدين الإسلامي والشرائع السماوية كافة. لذا كان تحسّب للمآخذ بإعلان استناده إلى فتوى لابن تيمية، معتقداً أنه بذلك يحبط أي اتهام بأنه خالف «الشريعة». ثم دار جدل على «جواز التحريق» من عدمه، وكأننا انتهينا من إقرار شرعية الذبح والسبي والصلب والرجم، لكن طرأ علينا جديد أعاد حيرتنا وتساؤلاتنا. كان هناك من يشعرون بالخزي إذ تقول لهم إن «داعش» أثبت بممارساته أنه مجرد عصابة تمتهن القتل وليس جماعة لديها مشروع سياسي، بل يحاجّون بأن الحرق «موجود في الإسلام» بل «وفي المسيحية» ومختلف الأديان. عادوا إلى أعماق التاريخ، إلى وقائع حصلت فعلا في عصور غابرة، ما يعني أمراً من اثنين: إما أن عقولهم (-عقولنا؟) ساكنة في تلك العصور ومسكونة بها، وإما أن إشهار «الشرع» هنا يفيد فقط في تأمين مقبولية عامة للجرائم. لكن هل تتعلّق المسألة في تمثّل ما جاء به الأولون والأقدمون من عنف يمشهد القتل والموت تسهيلا لترويجه، أم في اعتماد ما جدّ من وسائل وتقنيات تجعل من القتل والموت مجرد تفصيل رقمي. لا شك أن الاثنين مرفوضان بعرف إنسانية الإنسان، والتي تدعو الأديان جميعاً إلى احترامها ولا يبدو أنها نجحت أو تنجح في توجيه اتباعها جميعاً إلى إعطائها المكانة التي تستحق، خصوصاً في التعامل مع الآخر أو حتى في إدارة العداء بين بني الملّة ذاتها. ثم ماذا لو أن وقائع حصلت على أيدي قادة ومرشدين، فهل لو أفتى أحد مبرراً أفعال السفاحين والطغاة من هولاكو وجنكيز خان إلى هتلر وستالين وبول بوت، سيكون مُجازاً ومتاحاً تقليدهم لأن من يسمون «أهل العلم» شرّعوا «المماثلة»، وبالتالي ماذا لو أجاز ابن تيمية أو غيره أي نوع من القتل، وماذا لو تعاقب الكثير من الفقهاء والباحثين على الاجتهاد في هذا الشأن أو ذاك؟ لا شيء يبيح البحث عن حجج في بطون الكتب لتغطية جرائم مزمعة أصلا، فكل زمن يأتي بالأحكام التي تصلح لمعالجة معضلاته. ففي زحمة التفسيرات يتبيّن أن أصحابها القدامى والجدد ابتعدوا كثيراً عن قول الرسول «الإنسان بنيان الله ملعونٌ من هدمه»، وقد ذكّر به شيخ الأزهر وسط الجدل، أو قوله: «لا يعذِّب بالنار إلا ربُّ النار». بل ضاعت أيضاً فتاوى الذين سعوا عبر التاريخ إلى إفهام المسلمين بأن ما حدث في التاريخ ليس كلّه قابلا للتكرار، لكن المثير أن آخرين استخلصوا من تلك الأحداث «قوانين» تلقفتها عصابات اليوم كما لو أنها تصلح لكل الأزمان. يأتي ذلك في سياق السعي إلى «تحديث الخطاب الديني» كمهمة لم تفرضها الأحداث فحسب، بل أصبحت واجباً محسوماً لصون الدول العربية والمسلمة من القراءة المنحرفة للدين. إذ لا يجوز الركون إلى من ينتقون من القرآن الكريم ما يحلو لهم أو يناسب خططهم، بحيث يبدو كتاب الله وكأنه «فهرس» للمحاذير والممنوعات والعقوبات من قتل وتصليب وتقطيع إلى ذبح وحرق إلى ما يخبئه «الدواعش» من فنون ومفاجآت. فما يقوله أي إمام ليس أولى مما قاله القرآن أو الحديث. ولعل تحديث الخطاب الديني يبدأ بعدم الانزلاق إلى الجدليات التي تثيرها جرائم «داعش». فالدين يهذّب روح الإنسان ويعلّمه حسن استخدام عقله، ولولا ذلك لما كان كل هذا الاستهجان لحرق إنسان حياً، ولما كان أيضاً كل هذا الاستفظاع والاستنكار لمجازر تُرتكب بالأسلحة الحديثة وبحجج ملفقة أحياناً لا تختلف كثيراً عن فتاوى المتاجرين بالدين.