تمتلئ حالياً وسائل الإعلام في الولايات المتحدة، بما يمكن أن يطلق عليه عاصفة سياسية- صحية، تتعلق بمدى حقوق الوالدين في منح –أو منع- أبنائهم من تلقي التطعيم ضد الحصبة، وبقية أنواع التطعيمات الطبية بوجه عام. وتعود بداية هذه العاصفة، إلى انتشار وباء محدود من فيروس الحصبة، أصاب حتى الآن أكثر من 84 شخصاً، في 14 ولاية، بعد أن كانت الولايات المتحدة خالية تماماً من الفيروس، ومن أية حالات إصابة، لمدة خمسة عشر عاماً. ويعتقد أن مصدر الفيروس المسبب لهذا الوباء، كان من زائر أو سائح من خارج الولايات المتحدة، خلال زيارته في شهر ديسمبر الماضي لمدينة الألعاب الشهيرة «ديزنيلاند» بولاية كاليفورنيا. وعلى رغم أن مرض الحصبة ليس من الأمراض الجديدة، والخوف غير المبرر -لدى القلة القليلة- من تسببه في أعراض جانبية خطيرة على الأطفال، ليس بالحدث الجديد أيضاً، فإن إدلاء بعض من أهم الأسماء السياسية الأميركية، بدلوهم في هذه القضية، خصوصاً في ظل قرب أجواء الاستعداد وإبداء نوايا الترشح لانتخابات الرئاسة، منح الموضوع زخماً غير مسبوق. فعلى سبيل المثال، شاركت وزيرة الخارجية الأميركية السابقة «هيلاري كلينتون»، وهي أحد المرشحين المحتملين عن الحزب «الديمقراطي» في سباق الرئاسة القادم، من خلال حسابها على «تويتر» قائلة: «العلم واضح وبيّن: الأرض مستديرة، والسماء زرقاء، والتطعيمات فعالة. يجب حماية أطفالنا». وعلى المنوال نفسه، أدلى بدلوه أيضاً «كريس كريستي» حاكم ولاية «نيوجيرسي»، وهو أحد أقوى المرشحين عن الحزب «الجمهوري» لانتخابات الرئاسة المقبلة، وذلك أثناء زيارته لبريطانيا يوم الاثنين الماضي، عندما صرح بشكل عفوي بأنه يدعم «نوعا من الاختيار للأبوين»، إذا ما كانا يرغبان في تطعيم أولادهما، أم لا. وهو نفس المنحى الذي نحاه «رونالد بول» عضو مجلس الشيوخ عن ولاية «كنتاكي»، مؤيداً فكرة أن غالبية التطعيمات يجب أن تكون «اختيارية»، وأن قرار الأبوين في هذا الموضوع يندرج تحت مظلة «قضايا الحرية». وللوهلة الأولى، قد يعتقد البعض أن الموضوع يندرج برمته، تحت مواضيع الجدل السياسي، التي تحفل بها مرحلة ما قبل الاستعداد للانتخابات الرئاسية في الولايات المتحدة، إلا أنه بالأخذ في الاعتبار مدى خطورة فيروس الحصبة، يصبح جلياً للعيان مدى أهمية القضية، وحجم تبعاتها الدولية. وهو ما يتضح من إطلاق منظمة الصحة العالمية منتصف شهر نوفمبر الماضي، تحذيراً، مفاده أن التقدم الذي أحرز نحو القضاء على فيروس الحصبة خلال الأعوام الماضية، قد توقف وأصابه الشلل، وربما حتى بدأت خطواته في التراجع والتقهقر. ويأتي هذا التحذير المتشائم في أعقاب نتائج الدراسات والإحصائيات التي تظهر ارتفاع عدد الوفيات الناتجة عن فيروس الحصبة من 122 ألفاً عام 2012، إلى أكثر من 145 ألفا عام 2013. أي أن فيروس الحصبة نجح في عام واحد، في قتل عدد من البشر، يبلغ أضعاف من قتلهم فيروس «إيبولا» حتى الآن، الذي ما زال يثير موجة من الفزع والرعب حول العالم. وفي ثمانينيات القرن الماضي، أي قبل أقل من أربعة عقود فقط، كان فيروس الحصبة يقتل 2,6 مليون شخص سنوياً، غالبيتهم من الأطفال. وهذه المأساة الإنسانية التي يقدر ضحاياها بأكثر من 200 مليون خلال المئة وخمسين عاماً الماضية فقط، بدأت حدتها في التراجع مع تطوير تطعيم ضد الفيروس المسبب للمرض في نهاية الستينيات. ولكن للأسف، ونتيجة بحث علمي، مزوّر وكاذب، نشر عام 1998، ربط بين التطعيم الثلاثي -الحصبة والنكاف والحصبة الألمانية- وبين إصابة الأطفال بالتوحد، تراجعت مستويات التطعيمات بسبب خوف الآباء على أبنائهم. وعلى رغم أن نقابة الأطباء البريطانيين قد شطبت الطبيب المسؤول عن الدراسة المزورة، ومنعته من ممارسة الطب في بريطانيا مدى الحياة، ومع خروج الجهات الصحية في مختلف دول العالم، الواحدة تلو الأخرى، تكذب وتفند مزاعم هذا الطبيب النصّاب، ورغم سحب الدورية الطبية للدراسة والاعتذار عن نشرها، ومطالبة البعض بمقاضاة الطبيب المسؤول تحت قوانين الجرائم الجنائية، ما زالت مستويات التطعيم تشهد انخفاضاً ملحوظاً. ومؤخراً، وبالتحديد في الولايات المتحدة، أخذت القضية منحى سياسياً، يتعلق بالحريات والحقوق الشخصية، ليس ضد تطعيم الحصبة والتطعيم الثلاثي فقط، وإنما أيضاً حول فكرة فرض التطعيمات الطبية وإجبار الآباء عليها، التي يعتبرها الكثيرون أحد أهم إجراءات الصحة العامة الهادفة للحد من انتشار العديد من الأمراض الفيروسية بين أفراد المجتمع، وخصوصاً فئة الأطفال، إلى درجة تصنيفها كواحد من أفضل التطورات والاختراقات الطبية التي حققها الطب الحديث، إن لم تكن أفضلها على الإطلاق.