سيطر حدثُ إحراق الطيار الأردني مُعاذ الكساسبة على المشهد، مضافاً إلى واقعات شارلي إيبدو، وبوكو حرام، ومذابح النظام السوري، ومذابح المليشيات الشيعية والكردية بالعراق، واستيلاء الحوثيين على المشهد اليمني! وهذا الاستهوال لا يعود لفظاعة فعلة «داعش» وحسْب؛ بل وللتعقيدات التي تحيط بالموقف الأردني بالداخل وفي الجوار. فهناك ثلاث حساسيات موجودة، تصاعدت وتناقضت منذ عام 2011. الحساسيةُ الأُولى تتمثل بوجود «جهاديين» أردنيين منظِّرين للقاعدة ومشاركين في عملياتها، وقد ظهروا منذ غزو العراق عام 2003 وبلغوا ذروة نفوذهم في أعمال الزرقاوي بالعراق (2005-2006). ومنذ ذلك الحين تعامل الأمن الأردني بحذر شديد مع ملفّ الإرهاب حتى لا يثير مشكلات أكبر بين أقارب الجهاديين وبيئتهم الحاضنة بشرق الأردن. لكن منذ عام 2012 انفلت الزمام باتجاهين: ذهاب ألوف الأردنيين للقتال في سوريا ضد نظام بشار الأسد، ومع الإسلاميين الجهاديين غالباً. والاتجاه الآخر تمثّل في تدفق مئات الآلاف من اللاجئين السوريين إلى الأردن هرباً من مذابح نظام الأسد. وقد تسبب الأمران بإرهاق شديد للسلطات، كما أن العلائق بين النظامين الأردني والسوري ازدادت تعقيداً. فبينما كان الأردن يستصرخ الجهات العربية والدولية ويستغيث من أجل تحمل أعباء اللجوء معه؛ ظل حريصاً على علاقات الحد الأدنى مع النظام السوري (من الناحية الأمنية والاستخبارية). وجاءت الحساسية الثالثة بظهور «داعش» في سوريا والعراق. والمعروف أن معظم قيادات «داعش» هم من رفقاء الزرقاوي ومتدربيه. ورغم الأصوات التي ظهرت بالأردن محيِّيةً «داعش» أو داعيةً للحياد اتقاءً للشر؛ فإن الحكومة الأردنية ومنذ اجتماع جدة قررت الدخول في تحالُف الأربعين، وكانت واحدةً من عدة دول عربية شاركت في الحملة الجوية على «داعش» من الوهلة الأُولى. وما كان هذا القرار بالمشاركة للتضامن مع الشقيقات العربيات المشاركات فقط؛ بل ولأن التنظيم استولى على مواقع على حدود الأردن مع العراق، وصار الوقوف على الحياد خطراً. وبذلك صار يمكن للتنظيم أن يناوش الأردن على الحدود، أو يوقظ خلايا نائمة بالداخل الأردني. وكان من سوء الحظ أن الطيار الأردني الكساسبة هو الوحيد الذي سقطت طائرته ضمن حملة التحالف المستمرة منذ سبعة أشهر، ولقي هذه الميتة الفظيعة! ليس من المتوقع أن يتراجع العمل الأردني ضد «داعش» في المدى القريب. فقد ساعد الأردن ويساعد في عمليات تدريب القوات العراقية. وقد تُغير طائراتُهُ على مناطق قريبة من حدوده فيها «داعش»، وما وصلت إليها طائرات التحالف من قبل. إنما في المدى المتوسط يتوقع مراقبون أن تقوم الأطراف العربية في التحالُف بمراجعة الموقف من الوجهتين الأمنية والاستراتيجية. فالحملةُ تزدادُ طولا إلى ما لا نهاية. وتنظيم «داعش» ما ظهرت عليه علامات الضعف أو التراجع. وباستثناء كوباني في سوريا (والتي يبدو أنّ التنظيم انسحب منها وما حدث له انهيارٌ كبير)، وجبل سنجار في العراق، وقرى في ديالى وصلاح الدين؛ فإن معظم المناطق التي احتلها منذ أغسطس 2014 لا تزال تحت سيطرته. ولا يستطيع العرب ولا الدوليون اتهام الأميركيين بالخديعة. فقد قدّر أوباما وعسكريوه مدة الحرب بثلاث سنوات. لذا فإذا كان صحيحاً أنه لابد من مراجعة، فستكون باتجاه إمكان الحملات البرية، والتي دونها محاذير كبرى سياسية واستراتيجية. فالروس والإيرانيون وشيعة العراق وأكراد الطالباني والنظام السوري لا يقبلون أميركيين أو أتراكاً على الأراضي السورية والعراقية. والإيرانيون والنظام السوري جميعاً يقترحون أن يكونوا طرفاً جديداً في التحالف إنما بشروطهم، والتي تعنى استتباب الأمر للإيرانيين وحلفائهم المحليين في العراق وسوريا ولبنان واليمن. وقد ألحّ الإعلاميون الأميركيون في الأسابيع الأخيرة على أنّ هناك تنسيقاً من جانب العسكريين الأميركيين مع إيران، كما أنّ هؤلاء يوشكون على التنسيق مع بقايا قوات الأسد أيضاً! وبالنظر للوقائع المستجدة، يكون على العرب المشاركين بالفعل -وهم باستثناء الأردن خليجيون- التشاور في الإمكانيات والاحتمالات؛ فالعبرة ليست بالمسار فقط، بل بالنتائج والخواتيم أيضاً. ---------------- *أستاذ الدراسات الإسلامية بالجامعة اللبنانية- بيروت