كثرت في الآونة الأخيرة الكتابات الأميركية المنشغلة بالصعود الصيني على الساحة الدولية وما يمثله ذلك من تهديد ومزاحمة لأميركا باعتبارها القوة العظمى الوحيدة المتبقية بعد انهيار الاتحاد السوفييتي السابق. والكتاب الذي نعرضه في هذه المساحة لمؤلفه مايكل بيلزبيري بعنوان «ماراثون المائة عام: استراتيجية الصين لاستبدال أميركا كقوة عظمى» لا يشذ عن هذه الأدبيات، بل يندرج في سياق تحذيري أكثر وضوحاً، حيث لا يتوانى الكاتب عن الخوض في نظرية المؤامرة وإسباغ مسحة هوليودية على تحليله. هذا فضلًا عن كون الكتاب جاء في صيغة مذكرات ركز فيها على تجربته الشخصية كمهتم بالشأن الصيني ومتابع جيد لتفاصيله ما جعل البعد الذاتي غالباً على الموضوعي. وهذه المتابعة الحثيثة تقود الكاتب إلى خلاصة أساسية مفادها أن الصين، وعكس ما تبدو عليه في علاقتها بالولايات المتحدة والغرب عموماً، ليست تلك القوة الصامتة التي تسعى إلى تكريس وجودها الاقتصادي والعسكري بعيداً عن المواجهة، أو الاستعراض المجاني، فقادة الصين واستراتيجيوها، ينتهجون سياسة متعمدة تقوم على تضليل المراقب الأجنبي وأخذه على حين غرة بعد أن تكون قد راكمت من القوة ما يكفي للمجابهة، على رغم أن البعض في معسكر «الصقور»، كما يصفهم الكاتب، ضمن الحزب الشيوعي بدأوا يطالبون بمواقف متشددة تجاه الغرب تتناسب مع القوة الصينية المتزايدة. وهذه اللعبة المزدوجة التي تنخرط فيها الصين ومزاوجتها بين الانكفاء الحذر والقوة الظاهرة يحتم على قادة الغرب الانتباه لكشف المخطط الصيني، وذلك بالتخلي عن مجموعة من الفرضيات المغلوطة التي ما زالت تحكم نظرة الغرب تجاه خصمه الصاعد، ومن تلك الفرضيات التي ينبري الكاتب لدحضها مقولة أن بإشراك الصين في إيجاد الحلول للمشكلات الدولية كفيل بدفعها للاعتدال والتعاون مع الغرب. ولكن هذه الفكرة أثبت الزمن أنها خاطئة، فمنذ الانفتاح الأميركي على الصين في السبعينيات لم نشهد تعاوناً وثيقاً مع الغرب لمجابهة التحديات ولم توقع الصين على اتفاق للحد من تأثير الغازات المسببة للاحتباس الحراري مع الرئيس أوباما إلا مؤخراً بعدما أصبحت هي المتضررة الأولى، وباتت مدنها تختنق بالسخام. بل إن التطور التكنولوجي ونقله من الغرب إلى الصين، وأيضاً توسع التجارة الحرة التي استفادت منها بغزوها للأسواق وترويح سلعها، ما زاداها إلا رغبة في الاستحواذ على المعلومات التقنية من الشركات الأميركية، وفرض سلطتها على محيطها واختراقها لأفريقيا. ويواصل الكاتب استعراض بعض الفرضيات مثل ما يعتقده البعض في الغرب من أن الصين ستتحول تدريجياً بعد نجاحها الاقتصادي من النظام الشيوعي المنغلق على نفسه والقامع لشعبه إلى نظام أكثر ليبرالية، وأن المنجز الاقتصادي بدعم من الغرب وتحفيز منه سينسحب بالضرورة على المجال السياسي ليترجم في شكل التغير سياسي، ولكن مع حصل كان العكس تماماً، ولاسيما بعد مجيء الرئيس الحالي، «تشي جيبينج» الذي ما أن وصل إلى السلطة حتى شدد الرقابة على الإنترنت وحجب مواقع التواصل الاجتماعي. كما فرض قبضة حديدية على المعارضة، وأدخل العديد من رموزها للسجن، ولعل ما حدث مؤخراً في هونج كونج، يقول الكاتب، من مظاهرات مطالبة بالانتخاب الحر والمطلق لحاكم الجزيرة دون تدخل السلطات الصينية والطريقة العنيفة التي جابهت بها الشرطة المحتجين السلميين ينفي فكرة الانفتاح السياسي للصين. ثم هناك ما يعتبره الكاتب قراءة خاطئة للوضع بالادعاء أن الصين ليست سوى نمر من ورق، وأن هشاشتها الداخلية وتناقضاتها قد تؤدي إلى انهيارها في مقارنة غير موفقة مع الاتحاد السوفييتي السابق الذي تداعى من الداخل. ولذا يحذر أصحاب هذا الرأي دعاة الديمقراطية في أميركا من الضغط على الصين للانفتاح السياسي وتنظيم الانتخابات لأن من شأن ذلك أن يبرز التناقضات ويسرع الانهيار، والحال، يؤكد الكاتب، أن الصين أبعد ما تكون عن هذا الواقع القاتم كما يدل على ذلك حجم اقتصادها الكبير ونسبة النمو المتسارعة التي لن تقل في أسوأ الحالات عن 7 في المئة، ومع هذه الوتيرة في النمو الاقتصادي يتوقع أغلب المراقبين أن يتجاوز الاقتصاد الصيني نظيره الأميركي بحلول 2018. ويخلص الكاتب في النهاية إلى أن الصين لا تريد القوة الصارخة في بعدها العسكري التي تدرك أنها مهما بلغت شدتها لن تضمن لها التنافس على المدى البعيد، بل تسعى إلى تنويع مصادر القوة من اقتصادية وعلمية وتكنولوجية وعسكرية، وأيضاً إلى إضعاف الخصم وإنهاكه بإدخاله في تجاذبات إقليمية وإبقائه منشغلًا فيما هي تتقوى وتراكم أسباب القوة والمنعة حتى إذا التفت إليها الغرب كان الوقت قد فات. زهير الكساب ------ الكتاب: ماراثون المائة عام: استراتيجية الصين لاستبدال أميركا كقوة عظمى المؤلف: مايكل بيلزبيري الناشر: هنري هولت أند كو تاريخ النشر: 2015