أعرف أن مهمتي صعبة، لأنني أتحدث عن شخصية غير عادية ولا يمكن الإحاطة بكل مواطن التميز فيها، أو حصر إنجازاتها وأعمالها التي يخلدها التاريخ، هي شخصية الوالد المؤسس المغفور له، بإذن الله تعالى، الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، رحمه الله، فمواقفه العظيمة أكبر من أن تحصى، سواء في تاريخ دولة الإمارات العربية المتحدة أو المنطقة والعالم، وهو الحاضر الذي لا يغيب والذي تؤكد الأحداث من حولنا كل يوم بُعد نظره وعمق رؤيته ومتانة الأسس التي أقام عليها وإخوانه حكام الإمارات تجربة الوحدة، بما ضمن لها البقاء والنجاح على الرغم من المصاعب والتحديات التي واجهتها. ولذلك فإنني لن أتحدث عن مواقف بعينها للشيخ زايد، رحمه الله، فمواقفه كلها عظيمة بحيث يتحير المرء أيها يختار ليكتب حوله أو يسلط الضوء عليه، وبدلاً من ذلك سأتناول عبقرية القيادة لديه، لأنها هي التي حكمت كل مواقفه وقراراته ووجّهتها، وكانت العامل الحاسم في إنشاء دولة الإمارات العربية المتحدة وجعلها التجربة الوحدوية العربية الوحيدة الناجحة، بينما انهارت التجارب الأخرى أو تعثرت، فضلاً على أنها مفتاح فهم شخصيته وفلسفته في السياسة والحكم. إن عبقرية القيادة لدى الشيخ زايد، رحمه الله، وهي التي بدأت تظهر باكراً منذ أن كان حاكماً لمدينة العين ثم لإمارة أبوظبي، تتجسد في العديد من الملامح التي تقرنها كتب التاريخ بالعظماء والنابغين في كل العصور، أهمها عدم الاعتراف بالمستحيل، ورفض الاستسلام أمام المشكلات مهما كانت شدتها، والإرادة الصلبة التي لا تنكسر، والثقة بالنفس والقدرة على تحقيق الأهداف، والبراعة في حشد القدرات الوطنية وحل المشكلات وإيجاد هدف واحد يلتف حوله الجميع، والكاريزما (الشخصية القيادية) التي تعقد لصاحبها الزعامة والقيادة من دون منازع وتمنحه المصداقية في الداخل والخارج وتدفع الجميع إلى الالتفاف حوله والثقة بقراراته بفضل قوة منطقه وقدرته الفائقة على الإقناع، وهذا يجسد قول فولتير بأن الرجل العظيم هو «الذي يتحكم في عقولنا من خلال قوة الحق لا الذي يستعبدها من خلال العنف»، وهذا كان شأن الشيخ زايد، رحمه الله، الذي التف الإماراتيون حوله وآمنوا بمشروعه الوحدوي لأنهم أحسوا فيه الإخلاص والصدق ولمسوا نمطاً فريداً من القيادة لا يتكرر كثيراً في عمر الشعوب. وليس أدل على عبقرية القيادة لدى الشيخ زايد، رحمه الله، من قدرته على القراءة الدقيقة لمعطيات الواقع المحلي والإقليمي والعالمي بعد الانسحاب البريطاني من الخليج العربي في عام 1971 وإيمانه بأن الوحدة هي الخيار الحتمي الذي يجب العمل من أجل تحقيقه مهما كانت الصعاب والتحديات، فقد انسحبت بريطانيا تاركة فراغاً استراتيجياً سعت أطراف عديدة إلى ملئه والتمدد فيه، لكن نجماً عربياً أصيلاً سطع بقوة في أرجاء المنطقة، فلمّ شتاتها، ووحد إماراتها، وجمع قلوب أبنائها على هدف واحد، ولم يكن ذلك ليتحقق إلا بإرادة قائد عبقري له إمكانات وصفات غير عادية، هي صفات الرجال الذين يصنعون التاريخ ويغيرون مساراته، وقليل ما هم. ولن ينسى التاريخ للشيخ زايد، رحمه الله، موقفه الذي غير مجرى الأحداث والتاريخ ودعم الموقف العربي في حرب أكتوبر 1973، حين قرر قطع النفط العربي عن الدول الداعمة لإسرائيل، قائلاً: «النفط العربي ليس بأغلى من الدم العربي». إن الشيخ زايد، رحمه الله، مدرسة متكاملة في الحكم والسياسة والعلاقات الدولية، ما زال نبعها فياضاً وإلهامها متوهجاً، وهو ليس شخصية إماراتية عظيمة فحسب، وإنما هو رمز خليجي وعربي وإسلامي، بل عالمي، وقف إلى جانب القضايا العربية والإسلامية والدولية العادلة، وترك بصمات ثرية على صفحة تاريخ البشرية جمعاء، ولا يمكن أن تُذكر صفات المروءة والحكمة والشجاعة والكرم والعدل إلا ذُكر اسمه مقترناً بها. إن الشهادات على عظمة الشيخ زايد، رحمه الله، وعبقريته من قِبل قادة ومفكرين ودارسين ومؤرخين في العالم كله، أكثر من أن تحصى أو تُعد، لكن أكبر شهادة على موقعه المميز، رحمه الله، في سجل العظمة، أن حضوره ما زال متوهجاً في عقول الإماراتيين وقلوبهم بعد سنوات طويلة من رحيله، وتشهد تجارب التنمية الناجحة في العالم كله على سلامة نهجه وسبق رؤيته، لأنه أسس دولة الوحدة على قواعد راسخة، وأدرك أن بناء الإنسان هو أساس بناء الأوطان، ولم يضع بينه وبين مواطنيه حواجز أو موانع، ولذلك فإنه وضع الغرس الطيب والبذرة الصالحة لكل ما تعيشه الإمارات اليوم من تنمية واستقرار سياسي واقتصادي واجتماعي، وتطور فشلت قوى الشر والضلال في تهديده أو النيل منه. إن ما حققه الشيخ زايد، رحمه الله، على أرض دولة الإمارات العربية المتحدة والمنطقة يجعل كل من يطالعه أو يتعرف إليه يتساءل بدهشة وإعجاب: هل انتهى فعلاً عصر المعجزات (عصر الشيخ زايد)؟