كتبت يوماً عن صلاح الدين الأيوبي أنه لم يخرج عن كونه قائداً عسكرياً أسس لنظام حكم، ولولا معركة حطين لربما نسيه البعض كما نسي 25 قائداً من حكام مصر الشراكسة، مثل برقوق وأبو سعيد جقمق وخوش قدم، ولكن معركة حطين لفتت الأنظار إليه فخلده الشرق والغرب. الشرق لأنه أعاد الاعتبار لأمة مهزومة. والغرب لأنه قهره واسترجع القدس بعد معارك سالت فيها الدماء أنهاراً. وهناك من المؤرخين من اعتبر أن الحروب الصليبية التي استمرت 171 عاماً لم تكن حملات سبعاً كما صنفها كثيرون بل كانت حربا مستمرة لم يتوقف فيها تدفق المقاتلين لحظة. والمهم هو رؤية التاريخ من منظار نقدي. وفي أول جملة من كتاب «مختصر دراسة التاريخ» للمؤرخ البريطاني الشهير «آرنولد توينبي» قال عن المؤرخين: إنهم أميل إلى توضيح آراء الجماعات التي يكدحون في محيطها منهم إلى تصحيح هذه الآراء. والنقد ثقيل وصعب وحرج ومزعج وقد يُكسب العداوة. وهذا الدفاع عن شخص صلاح الدين بما يجعل القراءة النقدية للتاريخ في زمنه غير مرغوبة عند البعض يؤكد المرحلة العقلية التي يعيشها المجتمع العربي. فكل مجتمع يعيش حسب النمو في مرحلة من ثلاث: «الأشياء» أو «الأشخاص» أو «الأفكار». وصلاح الدين الأيوبي قائد عظيم، ولكنه أيضاً شخص يقترب من الحق وقد يبتعد. وله وعليه كأي إنسان. ومن أجمل ما تركه في وصية الموت تذكير أولاده السبعة عشر ألا يحقدوا لأن الموت لا يبقي أحداً، وأن يعفوا عن الدماء لأن الدماء لا تنام. ولذا فإن أي جدل في موضوع الشخص قد يجر إلى نزاعات وسوء تفاهم. وبكل أسف فإن التاريخ من يقوده هم الأشخاص، وهي النهاية التي انتهى إليها الفيلسوف الإيطالي أنطونيو غرامشي الذي رأى أن الثقافة هي التي تهيمن على مصائر الناس أكثر من الحكومات والنظم السياسية. والثقافة ذات وزن أثقل من نجم نيتروني. وهي قد تبرمج عقول الناس في مسارات بأشد من متاهات التجربة للفئران في البحوث المعملية. والثقافة عموماً قد تبجّل الأشخاص وقد تستبعد أي حس نقدي تاريخي. ولذا فعندما نتناول شخصية بطل تاريخي قديم كصلاح الدين، وهي شخصية لامعة بأشد من الشعرى اليمانية، فهنالك من قد يخلط المثالي بالبشري، ويصبحون وكأنهم أشخاص متعالون فوق أي تحليل ونقد في ذهن البعض. وهكذا تخلق الأسطورة في حياة الناس. فكما كان ريتشارد قلب الأسد أسطورة في الغرب فقد تحول صلاح الدين إلى أسطورة إسلامية في أذهان بعض المؤرخين. وكلا الاثنين عسكريان ولكن من يتورط فيدخل إلى الساحة النقدية قد يضع قدمه على حقل الألغام. وحتى ننتقل من مرحلة الأشياء والأشخاص إلى عالم الأفكار فعلينا أن نقطع مسافة سنة ضوئية. وينقل عن الإمام علي كرم الله وجهه قوله لا تعرفوا الحق بالرجال اعرفوا الحق تعرفوا أهله. ولكن بعضنا يعرف الحق بالرجال ويقدس أبطال التاريخ القدامى، وقد يهتف للزعماء بالدم بالروح نفديك يا أبو الجماجم.