لقد كان لمصر دورها في الحفاظ على الحضارة الإسلامية، وقد حفظت التراث الحضاري الإسلامي وظل الأزهر حصناً للمقاومة ضد عوامل الضعف والتخلف. وليس عبثاً أن الحضارة الإسلامية والتراث الإسلامي، الذي أغار عليه المغول بعدما اكتسحوا مناطق إسلامية عديدة، تراجع إلى مصر، وأنقذته عندما ردت غزو المغول على أعقابه في معركة عين جالوت. وحول هذه البؤرة الإسلامية في مصر ينسج جمال عبدالناصر دوائره الثلاث، الدائرة العربية، والدائرة الأفريقية، والدائرة الإسلامية. فالدائرة العربية أولى الدوائر، والدائرة الأفريقية تتداخل أيضاً مع الدائرة الآسيوية ضمن ما عرف فيما بعد باسم العالم الأفريقي الآسيوي. ثم الدائرة الثالثة وهي الدائرة الإسلامية «أيمكن أن نتجاهل أن هناك عالماً إسلامياً تجمعنا وإياه روابط لا تقربها العقيدة الدينية فحسب وإنما تشدها حقائق التاريخ» أيضاً. إنها الدائرة التي تشد العالم الإسلامي كله إلى بعضه بعضاً وتربطه برباط روحي وتوجهه نحو غاية واحدة: «ثم تبقى الدائرة الثالثة التي تمتد عبر قارات ومحيطات والتي قلت إنها دائرة إخوة العقيدة الذين يتجهون معنا أينما كان مكانهم تحت الشمس إلى قبلة واحدة وتهمس شفاهم الخاشعة بالصلوات نفسها». ويرى ناصر الحج رمزاً توحيدياً لما يمكن أن يكون عليه ثقل العالم الإسلامي ومدى فاعليته وإيجابيته وترابطه حينما يتجه إلى الكعبة كل عام المسلمون من جميع أنحاء العالم الإسلامي: «يجب أن تكون للحج بوصفه مؤتمراً دورياً يجتمع فيه كل قادة الدول الإسلامية ورجال الرأي فيها وتجارها وشبابها ليضعوا في هذا البرلمان الإسلامي العالمي خطوطاً عريضة لسياسة بلادهم وتعاونها معاً حتى يحين موعد اجتماعهم من جديد بعد عام. يجتمعون خاشعين ولكن أقوياء متجردين من المطامع لكن عاملين، مستضعفين لله ولكن أشداء على مشاكلهم وأعدائهم، حالمين بحياة أخرى ولكن مؤمنين أن لهم مكاناً تحت الشمس يتعين عليهم احتلاله في هذه الحياة»، ويقول ناصر أيضاً: «وحين أسرح بخيالي إلى ثمانين مليوناً من المسلمين في إندونيسيا، وخمسين مليوناً في الصين، وبضعة ملايين من الملايو وسيام وبورما، وما يقارب مئة مليون في باكستان، وأكثر من مئة مليون في منطقة الشرق الأوسط، وأربعين مليوناً في داخل الاتحاد السوفييتي، وملايين غيرهم في أرجاء الأرض المتباعدة، حين أسرح بخيالي إلى هذه المئات من الملايين الذين تجمعهم عقيدة واحدة، أخرج بإحساس كبير بالإمكانات الهائلة التي يمكن أن يحققها تعاون بين هؤلاء المسلمين جميعاً، تعاون لا يخرج عن حدود ولائهم لأوطانهم الأصلية بالطبع ولكن يكفل لهم ولإخوتهم في العقيدة قوة غير محدودة». الإسلام إذن حكمة وعقيدة عالمية تضم ملايين المسلمين في آسيا وأفريقيا. وبالتالي تكون الحركة الأفريقية الآسيوية في جوهرها حركة إسلامية. ويكون مؤتمر القارات الثلاث في أفريقيا وآسيا وأميركا اللاتينية مؤتمراً ذا أهداف واحدة في التحرر والاستقلال والعدالة الاجتماعية نظراً لأن ظروف الكاثوليك الرومان في أميركا اللاتينية مشابهة لظروف المسلمين في آسيا وأفريقيا من حيث الفقر والسير في طريق النمو، وينبغي أن تجمعهم وحدة الموقف والهدف، وروح التعارف والتسامح والتعايش السلمي، وهي من صلب قيم الإسلام الحقيقية. كما أن حركة عدم الانحياز في جوهرها حركة «لا شرقية ولا غربية» لأنها تقوم على رفض الصراع بين القوى العظمى، وأن تكون الشعوب المتحررة حديثاً خارج مناطق النفوذ والأحلاف وأشكال الاستعمار الجديد. ولا يوجد تعارض بين هذه الدوائر الثلاث. وهنالك معاملات وثيقة بين مصر والعالم العربي والعالم الإسلامي من خلال البعثات الأزهرية. لا يوجد تعارض بين القومية العربية والأمة الإسلامية. فكلتاهما تشارك في معارك التقدم والثورة والدعوة إلى الحرية والمساواة والعدالة الاجتماعية. وهذا التضامن الإسلامي الذي يجمع الدوائر الثلاث إنما ينبغي أن يتم أصلاً لوجه الله ومصالح الشعوب وأن يكون غير متجه للسياسة أو الاستقطاب الإيديولوجي، أو إقحام الدين في السياسة. وهنا تصدى ناصر لبعض الأحلاف الإقليمية باعتبارها أحلاف استقطاب تفيد مراكز القوى والمصالح الغربية. وقد بدأت فكرة بعضها بعد 1957 مع بداية حركة التحرر العربي إثر تأميم قناة السويس وضرب الأحلاف العسكرية في المنطقة، وكان الهدف حصار العالم العربي وإعادته تحت مناطق النفوذ، فالأسماء واحدة والهدف واحد: عودة قوى الاستقطاب إلى المنطقة عن طريق الالتفاف حول العالم العربي من خلال بعض الحلفاء بالمنطقة. وربما كان الهدف أيضاً تخفيف الضغط على إسرائيل بدليل أن إيران وتركيا كانتا معترفتين بها. ولم يكن الهدف فلسطين وتحريرها، بل الدفاع عن إسرائيل والاعتراف بها واتهام ناصر بمعاداة الحلف، وبأنه يدافع عن زعامته في المنطقة. وبصرف النظر عن الصلة بين الدين والسياسة، فإنه يبقى أن توظيف الدين في السياسة، كان في بعض الأحيان يهدف إلى حصار القومية العربية وإيقاف حركة التحرر العربي.