شكلت القارّة الأوروبية، لاسيما شطرها الشمالي الغربي، المهد التاريخي للدولة- الأمة وللديمقراطية، اللتين باتتا، عقداً بعد عقد، ركيزتين راسختين في حياة تلك القارة، ومادتين للتصدير العالمي، استوردتهما في وقت مبكر أميركا الشمالية ثم راحتا لاحقاً تنتقلان من قارة إلى أخرى. وفي خلال هذه المسيرة، اضطلعت الحربان العالميتان الأولى والثانية، ثم الحرب الباردة، بالانتصار لهذا النموذج الجامع بين الدولة- الأمة والديمقراطية من خلال استبعاد النماذج الأخرى: ففي الحرب الأولى، انهارت ثلاث إمبراطوريات عابرة للحدود الوطنية والقومية، وغير ديمقراطية، هي العثمانية والقيصرية الروسية والهابسبورغية النمساوية- المجرية، وفي الثانية انهار المشروع الإمبراطوري والمناهض بقوّة للديمقراطيّة كما عبّرت عنه الفاشيات الألمانية والإيطالية واليابانية. ثم بنتيجة الحرب الباردة انهار النموذج الشيوعي- السوفييتي الذي ينطوي، ولو بقدر من الاختلاف، على السمات عينها. غير أن الدولة- الأمة، كمفهوم وكواقع في آن معاً، لا تعيش راهناً أفضل أيامها، وثمة من يتحدث بتشاؤم واضح عن مأزق كبير تصطدم به، وأنها قد لا تخرج منه على الشكل الذي كانت عليه حين حصل الصدام. صحيح أن أكثرية الاسكتلنديين قررت قبل أشهر، وعبر استفتاء شعبي، البقاء في المملكة البريطانية المتحدة، إلا أن الذين صوتوا منهم للاستقلال لم يكونوا بتاتاً أقلية معزولة. وفي بلدان كبلجيكا وإسبانيا (وإلى حد ما إيطاليا)، ثمة مشاعر انفصالية، إثنية أو قومية أو جغرافية، لا تقل حدة أو قوة عن تلك الاسكتلندية. ويشجع تلك الرغبة، التي تستند إلى مطالب اقتصادية عدالية ومساواتية أو إلى طموحات سيادية، أو إلى الأمرين معاً، واقع الاتحاد الأوروبي الذي بات في وسع الدولة المنفصلة أن تتصل به مباشرة من دون أن تمر بالعاصمة الوطنية الحالية. كما أن السابقة السلمية التي قدمتها تشيكوسلوفاكيا السابقة، بانشطارها الهادئ إلى دولتي تشيكيا وسلوفاكيا، تقلل التحفظات على مخاطر احتمال كهذا: إذ ما دام التشيكوسلوفاكيون السابقون، وهم في أوروبا الوسطى الأقلّ تقدماً، قد نجحوا في التوصل إلى طلاق متمدن، فلماذا لا ينجح في ذلك الأوروبيون الغربيون الأكثر تقدماً؟ وهذا ما يمثل واحداً من فارقين مهمين يميزان بين احتمال تجاوز الدولة- الأمة في أوروبا وتهديمها الجاري في مناطقنا وفي أجزاء أخرى من «العالم الثالث»، حيث يصطبغ التحول المشابه بكثير من العنف والدم، على ما نرى اليوم في العراق وسوريا واليمن وليبيا. أما الفارق الآخر، فإن أوروبا عاشت تلك التجربة، وربما استنفدتها، بل ربما بدأت البحث عن صيغ أخرى لوجودها السياسي، فيما الدولة- الأمة لم تقلع أصلاً في بلداننا إلا بوصفها فرضاً سلطوياً يهبط على المجتمع من الأعلى، ولحقب قصيرة. ولكن الديمقراطية لا تبدو، هي الأخرى، في وضع أفضل حالاً من وضع الدولة- الأمة. فنسبة الإقبال على الانتساب إلى الأحزاب السياسية التقليدية تشهد تراجعاً متنامياً، فيما يسود التخوّف من أن تجد البلدان الأوروبية نفسها عاجزة عن إحداث استقرار سياسي على قاعدة العمل البرلماني، بحيث تنتقل، في أحسن احتمالاتها، إلى حكم ائتلافات حزبية تكون عارضة ومؤقتة. كذلك يتراجع الإقبال على التصويت في بلدان أوروبا، ولاسيما في أوساط الشبيبة التي تفقد ثقتها بالعملية الانتخابية وتجد في وسائط التواصل الاجتماعي (فيسبوك، تويتر الخ...) منابرها الأشد تعبيراً عنها. وبذريعة التشابه القائم بين برامج الأحزاب الكبرى، والفجوة المتّسعة بين النُخب السياسية وجمهرة المصوّتين، كما بذريعة الجمود المؤسسي لتلك الأحزاب في عمومها، تكتسب مجموعات المجتمع المدني وقضاياها الموضعية وزناً متعاظماً في الاهتمام الشعبي العام. لكن ما هو أخطر مما عداه يتمثل في صعود الحركات الشعبوية، اليميني منها واليساري على السواء، بشعاراتها الصاخبة في «رفض أوامر بروكسل»، كما في العداء للهجرة والعولمة والإسلام وبرامج التقشف، موضبةً في سلال إيديولوجية وتعبوية يقلّ فيها التمايز. فهناك اليوم نسخ كثيرة في الدنمارك وفنلندا وإسبانيا والسويد وألمانيا وإيرلندا عن أحزاب كـ«الجبهة الوطنية» في فرنسا أو «استقلال المملكة المتحدة» (يوكيب) في بريطانيا. ولابد أن يُحدث فوز «سيريزا» اليسارية- الشعبوية في اليونان في انتخابات أملاها عجز اليونانيين، في ديسمبر الماضي، عن التوصل إلى انتخاب رئيس لجمهوريتهم، انتعاشاً واسعاً لدى الشعبويّات الأوروبية عموماً. فقد عزف قائد «سيريزا» أليكسس تسيبراس على وتر الكرامة اليونانية المهانة والجريحة، مستقوياً بوقائع اقتصادية كالحة ومحبطة. فالمعدل الوسطي للدخل الفردي الشهري في اليونان لا يتعدى اليوم 600 يورو (أو 690 دولاراً)، فيما تبلغ البطالة نسبة 25%، علماً بأن هذه النسبة تتضاعف في أوساط الشبيبة. ولقد تقلص الاقتصاد اليوناني في السنوات الأخيرة، أي منذ اندلاع أزمة 2008 المالية، بنسبة الربع، وارتفعت ديون ذاك البلد لتبلغ 175% من إجمالي ناتجه المحلي، كما وصل مجموع ما اقترضته اليونان من ثالوث السوق الأوروبية والبنك المركزي الأوروبي وصندوق النقد الدولي 240 مليار يورو. وما سيضاعف استشعار القارة الأوروبية بأسرها بانتصار «سيريزا»، أنه قد يطرح على الطاولة مسألة بقاء اليونان في عملة «اليورو» (ولو أنّ الاحتمال تراجع قليلاً مؤخراً)، انطلاقاً من التعاطي مع الديون التي قدمت لذاك البلد كي يخرج من أزمته المالية، مقابل برنامج قاسٍ في تقشفه يُفرض على اليونانيين. وبطبيعة الحال، فهذا ما سيوفر للأحزاب الشعبوية في عموم تلك القارة مزيداً من الحجج ومن الدفع التعبوي في آن. وإذ تحتفل أوروبا هذا العام بالذكرى الـ800 لـ«الماغنا كارتا»، وبالذكرى الـ750 لولادة أوّل برلمان في العالم في «وستمنستر»، يقوم على انتخاب الممثلين، وهما ركيزتان تأسيسيّتان، نظرياً ومؤسسياً، للديمقراطية اللاحقة، تبدو مساحة الغموض كبيرةً، كما تبدو الأسئلة مشروعة حول الصورة التي سترتسم للقارة العجوز، والمخاض الذي قد تعانيه في عبورها إلى مستقبل قد لا يذكّر كثيراً بحاضرها الراهن.