قد يبدو الأمر مفارقاً ومثيراً للاستغراب أن تؤيد «مارين لوبان»، زعيمة حزب «الجبهة الوطنية» على يمين فرنسا المتطرف، حزب «سيريزا» في أقصى «اليسار» اليوناني الذي فاز مؤخراً في الانتخابات محققاً تقدماً كبيراً، لكن في الحقيقة لا يوجد ما يثير الدهشة، فحزب «سيريزا» و«الجبهة الوطنية» ومعهما باقي الأحزاب الأوروبية المناهضة للمؤسسة الرسمية يشتركون جميعاً في انتمائهم لتيار سياسي ثوري يكاد يزحف الآن على مجمل القارة الأوروبية، معيداً بعض المعنى الأصلي للعمل السياسي ومحدداً الفوارق بين ما هو «يمين» و«يسار»، وفي الوقت نفسه مساعداً الرئيس الروسي بوتين في مواصلة خططه، ولفهم ما يجري لا بد من إلقاء نظرة ولو خاطفة على التاريخ السياسي الأوروبي في الأزمة المعاصرة، فقد هيمن على الساحة السياسية الأوروبية بعد الحرب العالمية الثانية نظام الحزبين الذي تناوب فيه «وسط اليمين» و«وسط اليسار» على تولي السلطة وإدارة الحكم، وهكذا صعد في فرنسا كل من التيار الديجولي اليميني ممثلا في الاتحاد من أجل الحركة الشعبية، وإلى جانبه الحزب الاشتراكي، وفي ألمانيا برز «المسيحيون الديمقراطيون» و«الديمقراطيون الاشتراكيون»، ولم يختلف الوضع كثيراً في بريطانيا التي تداول فيها على السلطة حزبي «المحافظين» و«العمال»، ثم في إسبانيا بين الحزب «الشعبي» ونظيره الاشتراكي، وأخيراً في اليونان بين حزب «الديمقراطية الجديدة» و«باسوك» الاشتراكي. وفيما كانت هذه الأحزاب تنافس بعضها البعض تطورت مع الوقت لتتشابه سياستها إلى حد التطابق أحياناً، فعلى سبيل المثال لا يزايد أحد على فرانسوا أولاند الاشتراكي في دفاعه عن الشركات وأرباب العمل، كما أن إصلاحاته تحظى بتأييد واسع من قبل نقابة المديرين، فيما لا تتحرج أنجيلا ميركل من التحالف مع الاشتراكيين في إطار ائتلاف حكومي، وعندما حكم حزب «العمال» آخر مرة في بريطانيا كان من الصعب تمييزه سياسياً عن «المحافظين»، والنتيجة أن هذا التلاقي الكبير في أجندة الأحزاب السياسية على اختلاف مشاربها «اليسارية» و«اليمينية»، أدى إلى تراجع كبير في معدلات الانتماء الحزبي بعموم أوروبا. ومهما اختلف المرء مع الأفكار والسياسات التي تدافع عنها أحزاب أقصى «اليمين»، مثل «الجبهة الوطنية» في فرنسا وحزب «الاستقلال القومي» في بريطانيا، أو مبادئ الأحزاب «اليسارية» الراديكالية، مثل «سيريزا» في اليونان و«بوديموس» في إسبانيا، إلا أنهم على الأقل يطرحون أفكاراً واضحة، وهي على سطحيتها وبساطتها، تخاطب جمهوراً عريضاً، وتحدد الفوارق بينها وبين الآخرين، لكن يُضاف إلى هذا الوضوح في الرؤية والأفكار على قصور ما تحمله من مضامين وتهافت العديد منها، بعدان آخران يتمثلان في ازدراء تكنوقراطيي الاتحاد الأوروبي في بروكسل، والتعاطف مع الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، فجميع الأحزاب الشعبوية الأوروبية تُجمع على تحميل مسؤولية الأزمة الاقتصادية وما يصاحبها من صعوبات تكابدها الشعوب إلى الاتحاد الأوروبي ومؤسساته مثل البنك الأوروبي المركزي. وبما أن العقوبات المفروضة على روسيا هي صنيعة الاتحاد الأوروبي الذي سببت سياساته كل هذه المعاناة الاقتصادية، ترى تلك الأحزاب أنها من الأجدر معارضتها والتعاطف مع موسكو، وهو ما عبر عنه مثلا زعيم سيريزا، «ألكسي تسيبراس»، قائلاً «إن الحرب الاقتصادية ضد روسيا لا تساهم في حل الأزمة الأوكرانية، بل فقط تقود إلى جملة من التداعيات السلبية بالنسبة لمجمل الاتحاد الأوروبي، وبخاصة دول الجنوب الأوروبي مثل اليونان»، فيما نُقل عن زعيم «بوديموس» الإسباني، بابلو إيجليسياس، تنديده «بالمعايير المزدوجة» التي يتبعها الاتحاد الأوروبي في التعامل مع روسيا وإسرائيل، بحيث يسمح الأوروبيون لهذه الأخيرة بالقيام بنفس تُنتقد على أساسه روسيا في أوكرانيا التي أصبح فيها النازيون الجدد، حسب رأيه، جزءاً من الحكومة. ومن بين كل تلك الأحزاب الجديدة التي تزاحم المؤسسة التقليدية فقط «سيريزا» لوحدها استطاعت الوصول للسلطة في اليونان، لكن حتى هذا الصعود المقتصر على اليونان، لم يمنع تنامي المخاوف في أوروبا من التداعيات المحتملة على العملة الموحدة التي واصلت انحدارها مسجلة أدنى مستوى لها منذ عام 2003، وقد يكون هذا مجرد بداية، لا سيما وأن حزب «بوديموس» الإسباني يتقدم استطلاعات الرأي، ولو حقق فوزاً في الانتخابات المقررة خلال السنة المقبلة ستدخل أوروبا مرحلة أكبر من الاضطراب، باعتبار إسبانيا خامس أكبر اقتصاد أوروبي، وأيضاً باعتبار «بوديموس» أكثر راديكالية في «يساريته» من «سيريزا» نفسها. ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفس»