خلال السنتين المقبلتين ستتوفر «فرص طيبة» لأن تتحول حكومة الولايات المتحدة إلى كيان مشلول تماماً. وبعد انتهاء الانتخابات النصفية، تفاقمت ظاهرة اقتسام القوة السياسية بشكل أكبر بين الرئيس والكونجرس، وازدادت الكراهية والبغضاء تجذّراً بينهما. وبات كل طرف يرى أن عمله الأساسي يقتصر على تقويض آمال الطرف الآخر وإجهاض طموحاته. وأصبحت اللعبة واضحة، حيث تعرض الأغلبية النيابية الجمهورية تحت قبة «الكابيتول هول» مشاريع القوانين التي تقترحها، ثم لا يلبث الرئيس «الديموقراطي» أن يجهضها باستخدام «الفيتو» الرئاسي. وكان الخطاب حول وضع الأمة وردات الفعل التي تداولها السياسيون حوله تعكس هذه اللعبة. ولقد ضحك الرئيس بطريقة يعوزها الشيء الكثير من اللباقة في الكونجرس، وردّ عليه الكونجرس بضحكة استهزاء مماثلة. ومن المتوقع أن يتعمق هذا الخلل الوظيفي الذي تعاني منه أميركا بالفعل، وأن يبلغ مستويات أكثر سوءاً. ولكن.. ما الجذور التاريخية لهذا الخلل؟ يرى العديد من المعتدلين المتألمين من هذا الوضع، أن السبب يعود لتبني السياسيين وتداولهم لكمّ ضخم من الأفكار والأيديولوجيات. وتكمن المشكلة الأساسية فيما أعلن المحللون عنه مراراً من أن الأمر يتعلق بالآراء المتزمتة التي يتمسك بها البعض بقوة والتي تقع على النهايتين الأكثر بعداً عن بعضهما في الطيف السياسي، وأيضاً بالسياسيين والناخبين الذين قرروا الاصطفاف قريباً جداً من هذين القطبين المتباعدين. ومن الواضح أن تعمق ظاهرة الاستقطاب، التي أصبحت واضحة المعالم في الولايات المتحدة، تجعل عمل الحكومة أكثر صعوبة في نظام مبني على تقاسم عناصر القوة. والسؤال الأكثر أهمية: ما القوة الخفية التي تزيد من ظاهرة الاستقطاب؟ أعتقد أن الأيديولوجيا لا تقود الاستقطاب، بل إن الاستقطاب هو الذي يقود الأيديولوجيا. ولعل من أكثر الخصائص بروزاً في الانقسام السياسي الأميركي الذي لا يتوقف عن التوسع والتعمق، أنه لا يتعلق بالرفض المتبادل والمتواصل لكل ما يطرحه الليبراليون والمحافظون على بعضهم البعض، بل في أنهم يمقتون بعضهم بعضاً بسبب أشكالهم وسحناتهم وطرائقهم في العيش. وهم لا يبذلون أي جهد لإخفاء هذه الحقيقة. ويعدّ الفرز بحسب المناطق وأماكن العيش تعبير آخر عن هذا التوجّه، وهو أحد أسباب هذه الظاهرة التي يُقدّر لها أن تستمر وتتواصل. وخلال الحياة اليومية، لا يجد الليبراليون من سكان الحواضر والمدن الكبرى من جهة، والمحافظون من الفلاحين وسكان الأرياف من جهة ثانية، ثمة من داعٍ أو مناسبة للالتقاء ببعضهم البعض. ولا يرى أي طرف ضرورة لمسايرة الآخر أو التعامل معه. ثم إن الاختلاف بين «التقدميين» و«المحافظين» يتضح من خلال البحث في جذوره الثقافية بأكثر مما توضحه المواقف والتوجهات السياسية. ويظهر ذلك جليّاً من خلال نوعية الأعمال والوظائف التي يتكفلون بها، وبأنواع الملابس التي يرتدونها، وبالمشروبات التي يفضلونها، وبالموسيقى التي يستمعون إليها، وبالبرامج التلفزيونية التي يتابعونها. ويمكن القول بأن الفرز الثقافي هو السبب الأول للاختلاف بين الطرفين، فيما يحتل الاستقطاب السياسي المرتبة الثانية. كما يلعب تناقل هذه الأفكار من جيل إلى آخر دوراً كبيراً في اتساع شقة الخلاف بين الطرفين. ولليبراليين والمحافظين قيم سياسية مختلفة. والطرفان مقتنعان بأن هذا الاختلاف لا يتوقف عن النمو والتزايد. والديموقراطيات لا تتطلب الاتفاق على كل شيء، بل إنها تحتاج لقبول الأطراف المعنية بمبدأ الاختلاف لأن من طبيعة السياسة أنها تفرّق بين الناس، ولا بد لها من أن تفعل ذلك. كما أن التفاهم لا يتطلب الاعتدال السلبي أو «مجرد السير بين جناحي اليسار واليمين»، بل يحتاج إلى توفر الرغبة في التوصل إلى اتفاق حول الحلول الوسطية واهتمام كل طرف بالأطروحات والمواقف التي يقتنع بها الطرف الآخر مع الانتباه إلى قدرة الوطن على التحمل. ومن دون تلك القدرة التي لم تكن غائبة في يوم ما مثلما هي الآن، يكون من السهل الوقوع في شرك الخلل الوظيفي، الذي نلمسه الآن في دوائر الدولة الأميركية. وفي أي نظام للحكومات الديموقراطية في العالم، سوف تجد نفسك غارقاً في المتاعب بمجرد أن تعمل على إجهاض «الأجندات» التي يطرحها الطرف الآخر، وخاصة إذا كانت أكثر أهمية من «الأجندات» التي تطرحها أنت. وتبدو هذه الظاهرة مدمّرة في النظام الحكومي الأميركي. هذا هو الوضع الذي وصلت إليه الأمور الآن. ولعل أكثر ما يستثير القلق والخوف هو أن يشعر السياسيون من دون استثناء بالرضا عنه. كلايف كروك: محلل سياسي إنجليزي ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفس»