كان يتعرّق في داخله وفي جسده إلى درجة مهولة. ينتظر لحظة الصفر كي يضغط على زر الحزام الناسف الذي يطوق جسده، كي يحيل هذا الباص المزدحم بالركاب والمنطلق من بغداد نحو الجنوب إلى دمار هائل من جثث ودم وحرائق. إسماعيل الذي وصل حديثاً إلى «أرض المعركة» بعد رحلة تهريب طويلة وعصيبة من «حي الأمريكان» الشعبي في طرابلس يشعر بأن جسده قد التحم بالحزام الناسف وأصبحاً كتلة واحدة. وفي رحلته الأوديسية المرعبة من لبنان لينضم إلى «قاعدة بلاد الرافدين» كادت الساعات المديدة التي بدت وكأنها لن تنتهي أن تقضي عليه وهو حبيس صهريج التهريب. لا مكان للتفصيل هنا. حاله ليس بعيداً عن حال رفاقه الذين ضمهم صهريج التهريب واجتمعوا فيه هكذا مصادفة تائهة تافهة تجمع «مشاريع موت». كل منهم جاء لهدف واحد هو الموت. أفدح القصص، ربما، كانت قصة أبي عبدالله الصومالي الذي بدأ رحلة التهريب من موريتانيا وصولًا إلى ليبيا ومنها بحراً إلى ميناء اللاذقية، ثم إلى لبنان، وعودة إلى سوريا ملتحقاً بصهريج التهريب. عندما وصل إلى «أرض المعركة» كان نصيبه تدريباً على دراجة نارية ستحمله لاحقاً إلى شمال العراق ليفجر نفسه في عرس شعبي محتشد للأكراد الفيلية ويقتل ويجرح المئات. لا يعرف لماذا يحول هؤلاء السكان الذين عاشوا في هذه المنطقة آلاف السنين، وهو القادم من الصومال وبالكاد يعرف موقع العراق على الخريطة، إلى كومة دم ورماد ولحم محروق. حيث ولد وترعرع، أي في «حي الأمريكان»، يعكس إسماعيل حالة جيل كامل ضاع في ضجيج صدام الأصوليات والاستبدادات. لم تعد هناك بوصلة، ولم يعد هناك ما هو واضح. طرابلس العريقة التي عاندت العثمانيين وقاومت الفرنسيين وأنتجت تاريخها وشخصيتها وتعدديتها وهوياتها المتصالحة انزلقت على منحدر سريع صار يعري كل العراقة التي فيها. طرابلس العائلات القديمة وما امتد منها أو حولها، وتناغمُ مسييحيها العفوي مع مسلميها من دون تقعر بالتعايش صارت تختفي. صوفيوها صاروا يختفون ويظهر مكانهم غرباء عنيفون في المسلك والمظهر. أئمة جوامع المدينة وأعيانها الذين احترمهم الناس قروناً من الزمن أجبروا على الانزياح لهؤلاء النابتين من تراكمات الفشل. المهمة «الجهادية» الأولى التي ينخرط فيها إسماعيل كانت محاولة تفجير صلاة هندوسية جماعية للخادمات في طرابلس انتقاماً لاضطهاد البوذيين للمسلمين في الهند! لا يهم، المهم أنهم من «الفسطاط الآخر». لحسن الحظ تفشل العملية ولا تنفجر القنبلة التي وضعت في سلة مهملات المبنى الذي كانت ستؤول إليه الخادمات المسكينات. ولكن ذلك لا يؤثر على مسيرة صناعة الموت. مرة أخرى يبدع جبور الدويهي، الروائي اللبناني المالك للغة والتفاصيل، في تصوير تحولات مدينة الشمال اللبناني وانهياراتها. من بين شقوق الإنهاك الداخلي لناس «حي الأمريكان» الشعبي ويلتقط نمو التطرف والعنف والأصوليات. سليل العائلة المحترمة يعيش متشظياً بين الماضي الذهبي لجده وأبيه الذي ليس له قدرة على إرثه وتمثله، وفردانيته الحالمة والضائعة في تجربة نصف فاشلة في فرنسا، أعادته إلى مدينته متيماً بحبيبة بلقانية ذابت فجأة كثلج بلادها. بعد «مطر حزيران» و«شريد المنازل» يقدم الدويهي رواية «حي الأمريكان» ملتقطاً بدقة السينمائي المغرم بالتفاصيل أنفاس ناس الشوارع، وروائح الأزقة والدكاكين، وألوان الأتربة الخفية في طيات الزوايا. عندما يتحدث عن طرابلس، الفقيرة أو الغنية، يكون السرد بطيئاً، تفصيلياً، فيه كل شيء يتنفس.. إلى درجة الرتابة والملل. هنا وهذه هي الحياة وصورة الناس والمدينة، هنا الحقيقة. عندما يتحدث عن طرابلس الطارئة وأصولييها، يصبح السرد سريعاً وعمومياً لا مكان فيه للتفاصيل، لا ملامح لناسه، ولا روائح ولا ألوان نحسُّ بها طالعة منهم أو لهم. هنا وهذا هو الموت وصورة القاتلين القادمين، هنا الزيف. الدويهي لا ينحني أمام ريح الموت التي تعصف بالناس في المدينة، ينتصب في وجهها وينتصر للحياة. لكن، في تلك اللحظة العصيبة التي كان ينتظر فيها إسماعيل اللحظة الأخيرة لضغط الزر وتفجير نفسه وحزام الإبادة في الباص، نزل ولد صغير من حضن أمه في المقعد الثاني من الباص وصار يلهو ويمشي ويعد الركاب بلكنة عراقية تزهر على فمه اليافع. كان يمر على كل كرسي ويضغط باصبعه الهش على الركاب ويواصل العد. وصل إلى اسماعيل، نظر في عينه وابتسم، وضغط على صدره وعد 37. مع عد الركاب بالصوت الطفولي البريء تقلص الموت في قلب إسماعيل ووجدانه، وقامت قيامة الحياة. انفصل الحزام الناسف عن جسده. تعرق كثيراً، ثم نزل من الباص في أول فرصة، وتحرر من الحزام والموت. اقتحم جبور الدويهي تنظيم «قاعدة بلاد الرافدين» وتنظيمات مسلحة كثيرة، وهناك «جند» خلية صغيرة من إسماعيل وعبد الكريم آل عزام وأم محمود وانتصار والمشنوق، كانت مهمتها الانتصار للحياة وإبطال صاعق الحزام الناسف.. كي ينجو الولد الذي يعد الركاب ببراءة.