لم تعش المملكة العربية السعودية بين إعلان وفاة الملك الراحل ومبايعة الملك الجديد دقيقة فراغ واحدة، حيث تم انتقال سلس للسلطة، وعُين ولي العهد، وولي ولي العهد، وصارت الدولة مؤمَّنة بحكم حسم الأسئلة التي طالما طرحها البعض حول مستقبل السلطة وكيفية نقلها إلى عهد جديد... فالملك سلمان وهو الحاكم، أخو الحاكم، ابن الحاكم، عين ولي العهد مقرن بن عبدالعزيز ولياً للعهد نائباً لرئيس مجلس الوزراء، واستكمل ترتيب انتقال الحكم في المستقبل، بوضع ترتيبات نقل الحكم مستقبلاً لأول مرة في تاريخ السعودية للجيل الثاني من أسرة آل سعود عندما عين الأمير محمد بن نايف ولياً لولي العهد ونائباً ثانياً لرئيس مجلس الوزراء وأخذ القرار بطريقة انسيابية وسلسة، وحاجة الدولة ماسة إليه... وقبل سنوات فقدت المملكة العربية السعودية اثنين من القامات الكبار هما وليا العهد السابقان الأمير سلطان بن عبدالعزيز والأمير نايف بن عبدالعزيز، وعلى قدر هذا الفقد، فالدول المستقرة تعي أنها تفقد رجالًا، فالدوام لله وحده، وتنجب أيضاً رجالًا... فالأشخاص متغيرون ولكن القشرة الحامية للدولة والمؤسسات إذا زرعت بماء الثقة وثبتت بعوامل الاستقرار والتنمية تبقى صلبة ومستمرة. رحل الملك عبدالله بعد أن ثبت مكانة البلاد على المستويين الإقليمي والدولي، وبعد أن مرت الدولة بسلام من عواصف الاضطرابات الإقليمية وآخرها ما عرف برياح «الربيع العربي». وكان رجلًا محبوباً في الخليج والمغرب وكل الوطن العربي... وقد تنبه مبكراً لمخاطر التطرف والأصولية الإسلاموية الهدامة، ووقف وقفة الرجل النصوح المعطاء مع دول عديدة كانت قاب قوسين أو أدنى من الوصول إلى حافة الكارثة كمصر ولبنان... وعمل على لمّ شمل دول مجلس التعاون الخليجي، وتنبه للخطر الإيراني ومشروع تفتيت الدول العربية، وتصدى للعديد من المطامع في بعض دول المنطقة... وحاول جمع الفلسطينيين مراراً، فجمعهم في مكة المكرمة لكي يضمن أن قسم المصالحة لن يخرق... وكم مرة استقبلنا نحن كمفكرين وأكاديميين وكان يسلم علينا الواحد تلو الآخر في صورة الأب الكريم... والملك سلمان تربطه هو أيضاً بالمثقفين قرابات فكرية لا توصف، حيث يجري على ألسنتهم لقب «صديق الإعلاميين» الذين تعودوا أن يتلقوا اتصالات هاتفية منه، تكون دائماً في الصباح الباكر. وكان قد حصل لي شرف استقباله لي لما كان أميراً على الرياض وأنا أشارك في ملتقى فكري، واستقبلني في مكتبه العامر ورأيت بأم عيني كيف أنه يمتلك قدرة لا توصف في الولوج إلى قلب مَن أمامه، ويعود ذلك إلى تطبيقه قاعدة الاستماع قبل إبداء الرأي، فهو يحسن الإصغاء قبل الكلام ثم الدخول إلى قلب محدثه بسهولة، ثم هو رجل مطلع ومجتهد، وهو قارئ نهم لديه مكتبة كبيرة ومتنوعة، ويبهرك عندما يتحدث معك لسعة علمه وكثرة اطلاعه وصواب تفكيره.. فهي المسيرة التي تستنير كل وقت من أوقات الالتقاء، وكل خطوة من خطوات الاستبصار والاستجلاء والتحليل والتقييم، بنور جديد ويقين وهاج. وكم كانت غبطتي أن حكى لي عن علاقة المملكة العربية السعودية بالمملكة المغربية الشريفة وقصته الشخصية مع مدينة فاس في ستينيات القرن الماضي عندما كان يجول في أزقة المدينة العتيقة وإذا بعائلة فاسية تفتح للمسؤولين المغاربة ولسمو الأمير سلمان وهي لا تعرف أحداً منهم، وتستقبلهم بالصياح وكؤوس من الشاي في بيت متواضع جداً، وما هذه القصة الفريدة إلا دليل على تاريخ أواصر الأخوة والمحبة الدائمة بين الشعوب العربية أياً كان المنصب والمقام، ولذا أحسسنا نحن العرب كما أحس المواطنون السعوديون بأننا جميعاً فقدنا بوفاة الملك عبدالله والتحاقه بالرفيق الأعلى أحد أبناء الوطن العربي الذين قدموا إلى البلاد والعباد أعز وأنفس ما يسديه ابن بار، وأحسسنا بمبايعة الملك سلمان بفرحة كبيرة لأنه الرجل الذي يجيد السياسة المفعمة بأسمى مقاصدها وتجلياتها واستشرافها، خاصة أن السعودية باتت عليها مسؤوليات كبيرة تتعلق باستقرار وأمن المنطقة في مرحلة ساخنة من التاريخ المعاصر. والميكانيزمات المنظمة للتحالفات الإقليمية والدولية بل والنظام العالمي بدأت تتغير بسرعة كبيرة، والحيرة تطرق باب كل من لم يتمكن من التكيف معها والتأثير فيها، بما في ذلك الدول المتقدمة اقتصادياً والمؤسسات المالية والصناعية والاقتصادية الكبرى... فما بالك بالأفراد والمجموعات الصغيرة. وقد باتت مسألة الثقة بين الحاكم والمحكوم، وتثبيت قواعد الاستقرار والتنمية والتكيف من ضرورات العيش المشترك.