إذا كان هناك من يشك في عدم رغبة أوباما في جعل السياسة الخارجية تؤثر على أجندته الداخلية وتصرِفه عنها ما عليه سوى الاستماع إلى خطاب "حالة الاتحاد" الأخير، ففي الحيز القصير من الخطاب الذي خصصه للسياسة الخارجية أعاد أوباما التأكيد على موضوعاته المألوفة، محتفياً بانتهاء مهام أميركا القتالية في الخارج، والحاجة إلى مساهمة فعالة من الحلفاء في تحمل أعباء محاربة الإرهاب في ظل استمرار المساعدة الأميركية. وتوضيحاً لهذا الأمر قال أوباما: «أؤمن بالقيادة الأميركية الذكية، فنحن نقود أفضل عندما نجمع بين القوة العسكرية والقوة الدبلوماسية، وعندما نعزز قوتها بعملية بناء التحالفات.. ويمكن تلمس نجاح هذا المسعى حول العالم». والحقيقة أنه لو كان ما يقوله أوباما صحيحاً لكان واجباً على أميركا الاحتفاء به والإطراء عليه، فنحن لا نملك رفاهية التدخل المستمر في الخارج وخوض الحروب البرية بعد 13 سنة من حربي العراق وأفغانستان، لكن المشكلة أن هذا الطراز من القيادة الذي يتحدث عنه أوباما لا يحقق النتائج المرجوة، وذلك لأسباب لا يبدو أن أوباما نفسه يعرفها، وهو ما أضفى على سياسته الخارجية طابعاً سريالياً لا يمت بكثير من الصلة للواقع على الأرض. ولعله من علامات هذا الانفصال البين عن الواقع ما قاله أوباما بأننا «نقف إلى جانب جميع شعوب العالم التي يستهدفها الإرهاب من المدرسة التي ضربها في باكستان إلى شوارع باريس»، فإذا كان هذا صحيحاً لماذا لم نرَ أوباما، أو نائبه يشاركان قادة 40 دولة في المسيرة التضامنية التي شهدتها باريس عقب جريمة «شارلي إيبدو»؟ ربما يكون أوباما قد قدر بأن لديه من الأشغال في الداخل ما يحول دون مشاركته، لكن مثل هذا التصرف لا يناسب مشاعر التضامن التي عبر عنها، وبالطبع لم يكن هذا الانفصال الوحيد بين الكلمات والواقع في السياسة الخارجية، فقد أضاف أوباما في خطابه أن أميركا «تتعاون مع بلدان في جنوب آسيا وشمال أفريقيا لمنع تشكل مناطق آمنة للإرهابيين يستهدفون من خلالها أميركا، فقد تعلمنا بعض الدروس المكلفة على مدى السنوات الثلاث عشرة الأخيرة، إذ بدلا من إرسال أميركا لجنودها إلى أودية أفغانستان نقوم اليوم بتدريب القوات المحلية التي تحملت المسؤولية الأمنية». لكن ما لم يشر إليه أوباما هو احتمال انهيار القوات الأفغانية في مواجهة «طالبان» إذا ما سحبت أميركا كل قواتها على غرار الانهيار المماثل للقوات العراقية أمام عناصر «داعش» بعد عشر سنوات من التدريب الأميركي، فهل تعني هذه المخاوف أنه على القوات الأميركية البقاء في أفغانستان لتقديم الدعم والمساعدة، وأن الوجود الأميركي ضروري لتشجيع الأفغان والباكستانيين على بلورة استراتيجية مشتركة لاستعادة الاستقرار إلى المنطقة؟ هذا ما لم يوضحه الرئيس. ولم يكن أوباما واضحاً أيضاً فيما يخص استراتيجيته لمحاربة «داعش»، فهو اكتفى بالقول «إن القيادة الأميركية في العراق وسوريا، بما فيها القوة العسكرية، توقف تمدد داعش، وبدلا من الانجرار مجدداً إلى حرب برية.. نحن نقود حالياً تحالفاً واسعاً يضم بلداناً عربية بهدف تقويض الإرهاب والقضاء عليه». والحال أنه برغم هذه التصريحات ما زال تنظيم «داعش» يحقق مكاسب على الأرض سواء في العراق، أو في سوريا، كما أن حلفاء أميركا من العرب في حيرة من أمرهم بشأن الأهداف الأميركية، هذا ناهيك عن انقسامهم بين أنفسهم وعدم توحد رؤاهم، وفيما يكرر أوباما أن أميركا «تدعم المعارضة المعتدلة في سوريا» والتعويل عليها في محاربة الإرهاب، إلا أن الجميع يعرف أن هذا الدعم الموعود محدود للغاية ولن يصل إلا متأخراً بعدما تكون «المعارضة المعتدلة» قد قضي عليها ولم يعد لها وجود في الساحة. وإذا كان من الواجب حقاً الابتعاد عن أي حرب أخرى بالشرق الأوسط وتجنبها بكل الوسائل. لكن في ظل غياب استراتيجية أميركية واضحة، لن يتمكن التحالف المشكل ضد «داعش» من الذهاب بعيداً في حربه على الإرهاب، فالمشكلة مع المقاربة التي ينتهجها أوباما ليس في عدم تحبيذه للحرب ونفوره منها، أو في دعوته «لدبلوماسية قوية»، و«تعزيز القوة» بالتحالفات، بل تكمن في عدم ترجمته لهذه الأفكار والمبادئ إلى عمل ميداني والانخراط في ذلك النوع من القيادة الذي يجعل التحالفات فعالة وذات جدوى. ينشر بترتيب خاص مع خدمة «تريبيون نيوز سيرفس»