في خبر مثير نشرته صحيفة «الإندبندنت» البريطانية بداية هذا الأسبوع، وافق الأزواج والزوجات القاطنون بإحدى المدن الريفية بالدنمارك على بذل الجهد الحثيث لإنجاب المزيد من الأطفال، ضمن اتفاق عقدوه مع المجلس البلدي، للإبقاء على استمرارية عدد من الخدمات العامة. وينص هذا الاتفاق غير المسبوق، بين سكان المدينة الدنماركية (Thisted Town) البالغ عددهم 14 ألف شخص، على أن يبقي المجلس البلدي على المدارس، وحضانات الأطفال، وخدمات أخرى، إذا قام الأزواج بإنجاب عدد كافٍ من الأطفال لاستمرار تلك المرافق، والحفاظ على جدواها الاقتصادية. ويجسد هذا الاتفاق، مشكلة انخفاض الخصوبة ومعدلات الإنجاب في الدنمارك، التي وصلت إلى مجرد 1,7 طفل فقط في المتوسط في العائلة، وهو ما يعتبر معدل إنجاب منخفضاً بدرجة خطيرة، حيث أظهر تقرير نشر عام 2013 أن أكثر من واحدة من كل خمس من العائلات الدنماركية، لا توجد لديها أطفال بالمرة، على رغم أن معظم الأزواج يرغبون في إنجاب طفلين، وثلاثة أحياناً، حسب ما نشر في صحيفة «كوبنهاجن بوست». ومن المعروف والثابت في مجال الدراسات السكانية، أنه كي يظل عدد السكان في مجتمع ما ثابتاً دون تغيير خلال السنوات والعقود القادمة، فلابد أن يتساوى معدل الإنجاب -على الأقل- مع مستوى معدل الإحلال، وهو الحد الأدنى من عدد الأطفال الذي ينبغي أن تنجبه كل امرأة خلال حياتها للحفاظ على عدد السكان ثابتاً. وهذا المعدل يتراوح حالياً ما بين2,1 طفل لكل امرأة في الدول الصناعية، وما بين 2,5 إلى 3,3 طفل لكل امرأة في الدول النامية والفقيرة، بسبب ارتفاع معدل الوفيات في تلك الدول. وبوجه عام، ومن المنظور العالمي، يحتاج الجنس البشري برمته إلى معدل إنجاب يبلغ حوالي 2,3 لكل زوجين، حتى يظل عدد أفراده ثابتاً. ويرتبط هذا المعدل ارتباطاً وثيقاً بمعدل الخصوبة، أو عدد الأطفال الذين ستنجبهم كل امرأة خلال حياتها. ويعزى انخفاض معدلات الإنجاب في العديد من دول العالم حالياً لعدة أسباب، منها ارتفاع تكلفة تربية وتنشئة الأطفال، من تعليم، ورعاية صحية، وخلافه، وهو الوضع الذي تفاقم خلال السنوات القليلة الماضية مع ارتفاع معدلات التضخم، ومرور العالم بأزمة مالية لا زال ظلها يقبع على العديد من الاقتصادات الدولية، في شكل معدلات بطالة مرتفعة. والسبب الآخر في انخفاض معدلات الإنجاب، ربما يكون طبيعة الحياة الحديثة، وما تحمله في طياتها من ضغوط بدنية ونفسية، تتمثل في ساعات عمل طويلة معظم أيام الأسبوع، وحالة دائمة من التوتر المزمن. ومن المنظور الطبي، لا يمكن تجاهل فعالية وسائل منع الحمل، وتوفرها على نطاق واسع، وبأشكال متعددة، وبأسعار زهيدة. وهناك أيضاً تعاظم مشكلة ما يعرف بالانحياز الجنسي أو النوعي (Gender Bias)، بمعنى تفضيل الذكور على الإناث في كثير من المجتمعات -وخصوصاً في الصين والهند- التي تعاني من اختلال واضح في نسبة الذكور مقارنة بنسبة الإناث، بشكل رئيسي نتيجة إجهاض الأجنة الإناث، أو وأدهن لاحقاً. ومثل هذا الانحياز الجنسي، يجعل نسبة الإناث في المجتمع أقل من النصف، وبالتالي يفرض على كل واحدة منهن معدل خصوبة أعلى من المعدلات الطبيعية، حتى تصل مجتمعاتهن إلى معدل الإحلال المطلوب. وربما يكون أيضاً من الأسباب الرئيسية خلف انخفاض معدلات الإنجاب، انخفاض معدلات الخصوبة. حيث تظهر بعض الدراسات انخفاض الخصوبة لدى الرجال بمقدار الثلث خلال العقود الماضية. ففي دراسة أجريت عام 1989، كان متوسط عدد الحيوانات المنوية لدى الرجل حوالي 87 مليوناً في المليلتر الواحد من السائل المنوي، بينما بلغ متوسط عدد الحيوانات المنوية في دراسة مماثلة نشرت عام 2004، مجرد 62 مليوناً فقط في المليلتر، وهو ما يعني انخفاضاً قدره 29% خلال فترة العقد والنصف بين الدراستين. ويعاني حالياً نصف المجتمعات البشرية -تقريباً- من معدل خصوبة أقل من الحد الأدنى لمعدل الإحلال. وفي الدول الأوروبية على وجه الخصوص، وصلت معدلات الخصوبة إلى مستويات منخفضة جداً، إلى درجة أن مجتمعات هذه الدول ستشهد انكماشاً سكانياً خلال عقود قليلة، وربما انقراضها التام حتماً. وخصوصاً في ظل حقيقة أن أياً من الدول التي شهدت تراجعاً في معدل الخصوبة، إلى مستويات أقل من معدل الإحلال، لم تنجح أبداً في عكس هذا الاتجاه، وفي رفع معدل الخصوبة إلى أعلى من معدل الإحلال، أو حتى بقدرٍ مساوٍ له.