أفغانستان. هذا البلد الجميل ذو الموقع الجغرافي الصعب والموارد الشحيحة، كان نموذجاً للوطن الآمن المستقر والشعب المتآخي، على الرغم من تنوعه العرقي والثقافي. كان ذلك في عهدها الملكي أي حينما كانت تعيش في ظل نظام ديمقراطي تعددي على رأسه ملك بسيط بسياسات داخلية حكيمة جعلت كل الأفغان من مختلف المشارب يلتفون حوله كرأس للبلاد وحكم في الخلافات وصمام أمام ضد تغول الطموحات الفئوية والجهوية، وبسياسات خارجية متزنة ودقيقة في ظل استقطابات الحرب الباردة. بل يمكنني القول أيضاً، من واقع زيارتي لهذا البلد ومتابعتي لشؤونه في عهد نظامها الماركسي، أن البلاد كانت حتى ذلك الوقت تملك مقومات الدولة المدنية الحديثة، على الرغم من ضغوط حرب المجاهدين وتربص الغرب وأميركا وشح الموارد التنموية. فالمصانع والجامعات والمدارس والمستشفيات والمختبرات ووسائل النقل والترفيه كانت كلها تعمل بكفاءة. كما أن الحياة الاجتماعية كانت بها لمسات حضارية وتنويرية. ويمكن التأكد من ذلك من الصور الملتقطة لتلك الحقبة. والصورة كما نعلم لا تكذب! بسقوط الملكية وخليفتها الجمهورية الماركسية بدأ مسلسل انحدار أفغانستان نحو الهاوية كما يعلم الجميع، وفقدتْ هذه البلاد بوصلتها. فالحكم الذي جاء تحت حراب الأميركان وحلفائهم، من الباكستانيين وبعض العرب، رافعاً شعار إقامة الدولة الإسلامية النقية دخلت فور تسلمها السلطة في كابول في مماحكات قبلية وإثنية وجهوية، الأمر الذي مهد الطريق لخروجها سريعاً من الحكم لحساب حركة اسلاموية بالغة التطرف والهمجية والتمرد على نواميس المجتمع الدولي وشرائع حقوق الإنسان، هي «حركة طالبان»، التي تربت في أحضان المخابرات الباكستانية زمن ولاية الراحلة بي نظير بوتو، ولما اشتد عودها أيديولوجياً في مدارس الغلو والتطرف في بيشاور تم نقلها إلى السلطة في كابول من أجل ضمان ما تعتبره إسلام آباد حقاً استراتيجياً لها في البلد المجاور لها. وبقية القصة معروفة. وهكذا فمنذ انهيار سلطة طالبان تحت القصف الجوي الأميركي الغربي، وتفرق زعمائها في الكهوف الأفغانية والباكستانية على إثر أحداث 11 سبتمبر 2001، دخلتْ أفغانستان مرحلة جديدة من العنف والحروب العبثية المتوحشة، عززها عاملان، أولهما ضعف السلطة المركزية واختراقها من قبل بعض الموالين للطالبانيين، وثانيهما التنافس المرير بين الهند والباكستان على تعزيز نفوذهما في هذا البلد المهم استراتيجياً لكليهما في ظل تنافرها القائم منذ تقسيم الهند البريطانية، ناهيك عن تدخلات طهران بهدف تعزيز مواقع ونفوذ بعض الموالين لها ضمن «شيعة الهزارة». ويمكن هنا إضافة عامل ثالث يتمثل في الجهل السائد في بلاد الأفغان والعقلية القبلية والجهوية المتحجرة الأسيرة لنزعة الانتقام، والتي عززتها ثقافة الكلاشنكوف الموروثة من أيام الجهاد انطلاقاً من باكستان في زمن زعيمها الراحل ضياء الحق. غير أن هذا لا يعني عدم الاعتراف بتحقق بعض الإصلاحات المقرونة بسلام نسبي حذر في حقبة ما بعد طالبان. إذ توسعتْ المدن وتمتع سكان الأرياف بحرية التنقل، وصار المواطنون بصفة عامة أكثر رخاء وأفضل تعليماً وإدراكاً بفضل انتشار التلفزيون والانترنت ووجود حركة صحفية نشطة. كما أنّ الحكومة نجحت في إقامة علاقات جيدة مع كل القوى العالمية المحورية، والحصول على مساعدات دولية كبيرة، فشهد الاقتصاد الأفغاني نمواً بنسبة 9.5 بالمائة، وزاد الدخل الفردي من 120 إلى 640 دولاراً، لكن مع استشراء الفساد في مفاصل الدولة ورموزها. الوضع الأفغاني المعقد والمربك، لم تستطع لا حكومة الرئيس السابق حامد كرزاي وجيشه، ولا الإدارة الأميركية السابقة والحالية، ولا قوات «الناتو»، إيجاد حل جذري له. وبالمثل لن تستطيع حكومة الرئيس الأفغاني الجديد «أشرف غني» فعل شيء إزاءه. فحركة «طالبان» مثلاً لا تعترف بالحكومة الحالية ومؤسساتها وجيشها وقواتها الأمنية المدعومة من واشنطن، وتعتبرها دمية في يد الأخيرة. وإزاء هذه المواقف المتباينة لا يمكن القول سوى أنّ الوضع الأفغاني سيبقى على حاله بعد إنسحاب قوات «الناتو» من هذه البلاد وتسليم المهام الدفاعية والأمنية للجيش والشرطة الأفغانية، هذا إنْ لم يتراجع لمصلحة المتمردين من «الطالبانيين» وأعوانهم، الذين لا يخفون طموحاتهم لاسترجاع ما سلب منهم بالقوة، خصوصاً وأنهم يسيطرون على معظم المناطق الريفية الجنوبية وبإمكانهم التمدد شمالاً بعد انسحاب قوات «الناتو» عبر أعمال الترهيب وشراء الذمم.