بعد أن سيطر على القصر الرئاسي واعتقل مدير ديوان الرئيس، خاطب «عبد الملك الحوثي» زعيم المتمردين «الحوثيين» الرئيس اليمني «عبد ربه منصور» في رسالة تليفزيونية طويلة بأن عليه أن يمتثل صراحة وبسرعة كاملة لشروطه، وإلا«فإن كل الاحتمالات واردة والسقف عالياً جداً»، ملمحاً إلى أن السلطة الفعلية لم تعد بيد الحاكم الشرعي للبلاد، وليس له خياراً إلا الإذعان لمطالب الحركة التي أصبحت تسيطر فعلياً على كل شمال البلاد. وبالفعل لم يجد الرئيس المحاصر المعزول خياراً سوى الاستسلام لإرادة «الحوثي» في النكوص عن قرارات الحوار الوطني في الفيدرالية السداسية الأقاليم، وقبول وضع الجيش اليمني المنهك تحت وصاية الميليشيات «الحوثية»، بل إخضاع دار الرئاسة نفسها التي نهب أرشيفها وعدتها العسكرية للعصابات المتمردة. نحن أمام أشكال جديدة من الانقلابات تختلف في الشكل عن الانقلابات العسكرية، التي عرف اليمن الكثير منها، كما عرفها العديد من البلدان العربية. في الانقلابات الجديدة يحافظ على رمزية الشرعية مع إفقادها كل مضمون فعلي، وتستخدم أدوات الشرعية ومؤسسات الدولة لتمرير الإجراءات الانقلابية، وتسخر القوة في فرض موازين سياسية داخل الحقل العام، ويحجم صاحب القرار الفعلي عن احتلال واجهة السلطة. ليست تجربة اليمن بالاستثنائية في العالم العربي، عرفتها الجزائر بعد إقالة الرئيس الأسبق الشاذلي بن جديد (يناير 1992) وإنْ كان المؤسسة العسكرية هي التي أدارت التحول، بيد أن التجربة اليمنية تتجه إلى مسار أقرب لتجربة «حزب الله» في لبنان رغم اختلاف الساحتين من حيث التركيبة والخلفيات المعروفة. في العراق في عهد المالكي رئيس الوزراء السابق، تكرر المشهد نفسه بعد أن سيطرت ميليشيات «حزب الدعوة» على الجيش وعلى الدولة وافتكت من أطر الشرعية القائمة. ما يتعين استنتاجه من هذه الحالات، هو الاتجاه المتزايد إلى انفصام العلاقة العضوية بين الشرعية والعنف، التي تأسست عليها فكرة الدولة الحديثة التي تتميز باحتكار العنف الشرعي حسب عبارة «ماكس فيبر» الشهيرة. فمع تنامي الاتجاه في منطقتنا إلى تفكك الكيانات الوطنية، أصبح الخط الأخير لحماية السيادة هو الشرعية الدولية، وأصبح الصراع السياسي الداخلي متمحوراً حول هياكل الشرعية المؤسسية للدولة رغم أنها في غالب الأحيان فارغة. ومن هنا ندرك كيف أن الدولة الصومالية التي لم يعد لها وجود فعلي على الأرض منذ بداية التسعينيات لا تزال دولة كاملة السيادة في النظام الأممي، ولها حكومتها الشرعية التي تتغير بتغير موازين القوة بين الميليشيات المتصارعة، ويتم تمريرها عبر قوالب جلسات المفاوضات الداخلية المدعومة دولياً. الحالة اليمنية مرشحة لأن تكون تجربة موازية بحسب خصوصيات السياق المحلي، حيث إحدى أقدم الدول في المنطقة (تعود دولة الإمامة إلى سنة 897 م)، وحيث أحد أكثر المجتمعات تجانساً دينياً وقومياً، في الوقت الذي لم تنجح الدولة تاريخياً في بناء ثقافة سياسية وطنية واحتواء أطر الانتماء القبلي والروحي، مما انعكس بعد تجربة الوحدة والتحول الديمقراطي في ما أطلق عليه أحد علماء الاجتماع الغربيين مفهوم «التعددية المسلحة»، التي تعني عجز الدولة عن احتكار العنف في مجتمع قبلي مسلح. بيد أن الخطر الجديد اليوم في اليمن هو استفحال المليشيات الطائفية «الحوثية» التي تتنافس في الصراع على الأرض مع ميليشيات «القاعدة»، مما ينذر بسيناريو مماثل للسيناريو العراقي، أي تحالف قبائل الوسط والجنوب مع عصابات «القاعدة» لمواجهة أنصار «الحوثي». باكتمال سيطرة «الحوثيين» على مركز القرار في صنعاء وعلى جل أقاليم شمال اليمن، تبرز خيوط الهندسة الإقليمية الجديدة في شرق العالم العربي وجنوبه: شرعيات شكلية وعاجزة محصورة في حيز جغرافي ضيق، تشتت دوائر العنف وخروجها عن نطاق التحكم، بروز أنماط جديدة من التشكلات الإقليمية تتداخل فيها العوامل الطائفية بالقبلية والنزعات المتطرفة المسلحة.. ولا شك أن هذه الخارطة الجديدة خطر كبير بتهدد مفهوم الأمن الحيوي القومي المكشوف أمام تدخل القوى الإقليمية غير العربية الضالعة في أزمات المنطقة. ومن هنا ضرورة التفكير العاجل في ترميم المحور العربي وتأهيله للقيام بدور فاعل في الخروج من النفق المظلم.