أثناء نشأتي، أتذكر مقولة كانت تستخدم لوصف سلوك الأشخاص المتعجرفين إلى درجة القيام بأشياء بالغة الحماقة: «إنه ذكي جداً ولكنه أحمق!». وقد تذكرت هذا التعبير عندما سمعت رئيس مجلس النواب، جون بوينر يعلن أنه قد دعا رئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو لإلقاء كلمة في جلسة مشتركة للكونجرس، فيما يمثل تحدياً لتعامل الرئيس أوباما مع التهديدات المحدقة لجماعات التطرف وإيران. وأنا متأكد من أن بوينر عندما أعلن ذلك، كان يعتقد أنه الرجل الأكثر ذكاء في واشنطن، متصوراً أنه قد سرق لتوه الأضواء من الرئيس بعد يوم على خطاب «حالة الاتحاد». وأنا أيضاً متيقن بدرجة مماثلة من أن نتنياهو جلس في إسرائيل يهنئ نفسه بشدة على ذكائه لأنه مرة أخرى سيقوم بهجوم مباشر ضد الرئيس الأميركي الذي تجرأ على معارضته. ولم يكن المقصود من دعوة بوينر مجرد تحدي السياسات الخارجية للرئيس، وإنما كانت لديه بعض الدوافع السياسية الواضحة أيضاً. فبحسب التقارير الإخبارية الإسرائيلية، كان أول من اقترح فكرة الخطاب هو السفير الإسرائيلي لدى واشنطن، رون ديرمير، وهو ناشط جمهوري سابق، ومحل ثقة كل من نتنياهو والمتبرع الجمهوري الملياردير شيلدون أديلسون. ومن الواضح أن ديرمير اقترح فكرة الخطاب على قادة الحزب الجمهوري في الثامن من يناير الجاري، ووصلت الموافقة إلى رئيس مجلس النواب من أجل تقديم الدعوة قبل أيام على خطاب «حالة الاتحاد» من دون أي إشعار للبيت الأبيض أو وزارة الخارجية. ونتنياهو يخوض المنافسة لإعادة انتخابه رئيساً لوزراء إسرائيل، ويواجه خصوماً يثيرون مخاوف أنه قد أضر العلاقات الإسرائيلية الأميركية. وعليه، ينتهز نتنياهو فرصة الوقوف أمام الكونجرس الأميركي الذي يمنحه احتفاء بارزاً ويمكنه من إظهار أنه هو وليس أوباما من يتحكم في السياسة الأميركية. وعلى أية حال، كان نتنياهو هو من التقطته عدسة الكاميرا قبل عقد مضى يخبر أنصاره قائلاً: «إنني أعرف ما هي الولايات المتحدة.. هي دولة يمكن تحريكها بسهولة شديدة». ويعتقد أن لديه سجلاً يمكنه من تبرير عجرفته. ولطالما كان نتنياهو مرتبطاً بشكل وثيق بجناح المحافظين الجدد في الحزب الجمهوري، الذين عملوا معه على مدار سنوات لتخريب جهود صنع السلام الأميركية. وأثناء عقد تسعينيات القرن الماضي، تعاون مع الكونجرس الذي كان يقوده «جينجريتش» لتمرير قانون نقل السفارة إلى القدس، على رغم اعتراضات الرئيس كلينتون، ورئيس الوزراء الإسرائيلي آنذاك إسحق رابين. وبمجرد انتخابه رئيساً للوزراء، أدلى نتنياهو بخطابه الأول أمام جلسة مشتركة لأعضاء الكونجرس، بدعوة من «جينجريتش»، متعهداً بإنهاء عملية سلام أوسلو. وتمت كتابة ذلك الخطاب بمساعدة محافظين جدد أميركيين مؤثرين، مثل ريتشارد بيرل ودوغ فيث، وديفيد ورمسر. وقد استغل أيضاً ظهوره الثاني أمام الكونجرس في عام 2011، بدعوة من بوينر، في رفض مقترح الرئيس أوباما لاتفاقية سلام تستند على حدود عام 1967، مع اتفاقات متبادلة على مقايضة الأراضي. وحينئذ، تعجب المراقبون في أنحاء العالم من جرأة الكونجرس على دعوة قائد دولة أجنبية يوجه صفعة في وجه الرئيس الأميركي، ثم يرد بالوقوف 29 مرة احتفاءً بهذا القائد الأجنبي. ويستمتع نتنياهو الواثق بنفسه دائماً بالفرصة التي أعدها له وكلاؤه كي يوضح مرة أخرى أنه إلى جانب حلفائه الجمهوريين يمكنهم الهيمنة على واشنطن. وحقيقة أن ظهوره يأتي قبل أسابيع من الانتخابات الإسرائيلية أمر يعزز من موقفه. وتعتبر الحسابات السياسية هي جوهر نية بوينر كذلك، ذلك أنه لن يحرج فقط أوباما، ولكن الدعوة تمثل أيضاً فرصة للجمهوريين كي يجعلوا إسرائيل قضية محورية تظهر أنهم، وليس الديمقراطيين، هم أفضل أصدقاء تل أبيب في واشنطن. ولن يضر أن يُسعد قرار دعوة رئيس الوزراء الإسرائيلي إلى الكونجرس شيلدون أديلسون، الذي أنفق أكثر من 100 مليون دولار في محاولة فاشلة لهزيمة أوباما عام 2012، وقد التزم بإنفاق مبلغ مماثل على الأقل للمساعدة في وصول مرشح جمهوري إلى البيت الأبيض في عام 2016. وفي حين أن الحسابات التي أجراها كلا الطرفين قد تبدو ذكية، إلا أن هناك المزيد بشأن هذه القصة. فرد فعل واشنطن على هذا الانتهاك البروتوكولي كان فورياً. حيث أوضح البيت الأبيض ووزارة الخارجية أنهما لن يلتقيا نتنياهو عند قدومه إلى الولايات المتحدة. ونقل عن مسؤول أميركي قوله في الصحافة الإسرائيلية إن عدم اكتراث نتنياهو للاتصال بالبيت الأبيض لإخبار المسؤولين بأنه من المخطط أن يلقي كلمة أمام الكونجرس ليس طريقة لائقة للتصرف، ويمثل سابقة، وتصرفاً بربرياً. وأشار المسؤول ذاته إلى أن الإسرائيليين يعرفون كيف يتصلون بالبيت الأبيض يصرخون من أجل المساعدة عندما يعارضون الجهود الفلسطينية في الأمم المتحدة والمحكمة الجنائية الدولية، أو من أجل مزيد من المساعدة بخصوص نظام القبة الحديدية الصاروخي. وذكّر مسؤول أميركي آخر الإسرائيليين بأن أوباما سيكون رئيساً لمدة عامين آخرين، ولن يكون قلقاً بشأن حملة انتخابية أخرى. وبالمثل، وصف المعلقون في وسائل الإعلام محاولة انقلاب بوينر ونتنياهو بأنها محاولة لتقويض القياد الأميركية وانتهاك غير مسبوق للبروتوكول.