قرأْت أخيراً كتاباً جديداً عن محمد عبده من تأليف «مارك سدجويك»، والكتاب ممتع ويستحق عرضاً مفصَّلاً. لكنّ ما أريد ذكره الآن أنّ الكاتب يرى أن ضآلة الاستجابة لعبده في حياته تعود لأمرين: حملته الشرسة على «التقليد» المذهبي والديني بعامة مفارقاً بذلك معهود الناس- والأمر الآخر: بدائل الأوروبية الخالصة في المجالات التعليمية والثقافية والسياسية، وإن خالفت معهود الناس أيضاً! ويرى «سدجويك» أنّ عبده عرف السلفية المعادية للتقليد للمرة الأولى في دمشق عام 1883 عندما خرج من مصر منفياً على إثر فشل الثورة العرابية. لكنه وهو يلحظ تقارباً مع السلفيين كان يملك مشكلاته الخاصة مع التقليد المذهبي بالأزهر. والطريف انّ التسلُّف أو الثوران على التقليد داخَلَ أيضاً الحركات الصوفية مثل الطريقة السنوسية والطريقة المدنية. وكان فقهاء الزيدية الكبار- كما نعلم- قد ثاروا على تقاليدهم المذهبية في القرن الثامن عشر، كما ثار محمد بن عبد الوهاب خلال تلك الفترة. لقد كان الجميع يعلنون عن إنكار البدَع، والعودة للكتاب والسُنة، ثم يبحثون عن المخارج والبدائل إما تحت شعار اتّباع السلف الصالح أو تحت شعار الإصلاح الذي يعني من طرفٍ خفيّ استلهام أوروبا، وكما ظهر التياران السلفي والإصلاحي لدى السُنة، ظهرا لدى الشيعة أيضاً في صُوَرٍ مشابهةٍ وإن بتسميات مختلفة، فحدث الانشقاق البابي/ البهائي، ودخل فريقٌ من المراجع في رهانات تغيير طبيعة النظام السياسي بخلاف ما كان عليه التقليد. فبدت «المشروطة» إصلاحاً ذا نزوعٍ أوروبي، كما بدت «المشروعة» المعارضة للدستور والإصلاح محاولةً لاستحداث «تقليد» جديد بالتدامُج بين المرجعية والنظام السياسي القائم بديلاً للتسليم المتبادَل وشبه المحايد! لقد حدث قبل قرنٍ ونصفٍ وفي قلب الإسلام بمختلف اتجاهاته خروجٌ على «التقليد» بدواعي الضعف والجمود والغلبة الغربية والاستبداد السياسي والديني. وخلال قرابة السبعة عقود، تصارع الإصلاحيان مع السلفيين أو التقليديين الجدد، فتقدم خارج المؤسسات الدينية السلفيون والمراجعون الجدد، وتقدم بداخل المؤسسات الدينية(تحت شعار الإصلاح والاجتهاد) تقليديون جدد أو محافظون جدد! ووصل التقليديون الجدد إلى السلطة في إيران، بينما توالت الانفجارات في الإسلام السُني بداخل الدين، وبداخل المجتمعات والدول ومع العالم! كلا النزوعين أجرى خلال العقود الماضية عمليات تحويل في المفاهيم الدينية في خروجٍ على «التقليد»، جعلت الاستيلاء على الدولة ضرورةً لاستمرار الدين وانتصاره. وقد اصطدمت الأصولية الشيعية بنظام العالم أولاً انطلاقاً من موقعها في السلطة بإيران. وما ردَّ عليها الغربيون بالقوة بل حاولوا استيعابها بطريقتين: التعاون في المحيط الاستراتيجي لإيران لجهات العالم العربي، وأواسط آسيا، وشبه القارة الهندية- ودفعها للصدام مع الأُصولية السُنية ذات الأصول والمطامح المشابهة. وقد استجابت إيران لمسائل التعاون ومناطق النفوذ واندفعت بشتى الاتجاهات مبهورةً بالنجاح من جهة، وبالهشاشة العربية من جهة ثانية. لكنها ترددت كثيراً في مصارعة الأصوليات السنية الصاعدة، وحاولت استخدامها لمصلحة «القضايا المشتركة» إلى ما بعد الاحتلال الأميركي للعراق(2003). يومَها (2005 وما بعد) اندفعت تيارات «ما بعد القاعدة» لمصادمة إيران الشيعية لثلاثة أسباب: الاستيلاء على مناطق سُنية، والعمل مع الأميركيين ضد السُنة، والاندفاع في دعاوى عقدية للبراءة والتكفير. وهكذا وبعد الزرقاوي ومقاتِله، و«حزب الله» ومقاتله، اعتقدت الولايات المتحدة أنها استطاعت استيعاب الأصولية الإيرانية تماماً، ويمكنها دفعها إلى النهاية في مجالات التلاؤم والانتظام. إذ إنّ الصدام السني- الشيعي لدى إيران على الأقل، صارت له الأَولوية المطلقة، ومن ورائه الصدام القومي:عجم/ عرب! لا بديل عن «إصلاحٍ ديني» لدى السنة والشيعة على حدٍ سواء. وذلك لأمرين اثنين: الخروج من إشكاليات الدولة الدينية، والخروج من الصراع القاتل الشيعي/ السني الذي يضرب المجتمعات والدول. يتطلب الأمر الأول نهوضاً دينياً وفكرياً للتصدي لعمليات تحويل المفاهيم (باتجاه الدولة الدينية) لدى الطرفين. وهذا ممكنٌ لكنه شديد الصعوبة. وذلك بسبب إغواءات السلطة لدى الملالي، واقتناعات «الإسلام دين ودولة» لدى الشبان السنة، واستمرار المواجهات مع «الغرب» بين الإسلام والإسلاموفوبيا، وضعف التوجه النهضوي المستنير لدى الطرفين. وإذا كان الإصلاح الفكري صعباً جداً الآن، فماذا عن الخروج من أهوال الصراع المذهبي؟ هذا الملف يمكن الدخول فيه من طريق التفاوض الإيراني/ العربي بشأن مناطق التماسّ الساخنة في المشرق العربي واليمن والخليج. لكنّ «الحلَّ النهائي» إذا صحَّ التعبير، يبقى رهناً بالإصلاح الديني! أستاذ الدراسات الإسلامية- الجامعة اللبنانية