بعد يومين تحل الذكرى الرابعة لثورة 25 يناير المصرية، وهي إن لم تكن قد حققت كل أهدافها، إلا أنها أنجزت الكثير حتى هذه اللحظة، وأول إنجازاتها انكشاف «الإخوان»، فقد استعملوا الثورة وسيلة لاقتناص السلطة، ليصعدوا إلى خشبة المسرح فيرى الناس عوراتهم، بعد أن كان بعض الواهمين في مصر يتعاطفون معهم أيام مبارك، ظانين أنهم «ضحايا» أو «مناضلون» أو يمتلكون حلًا للمشكلات التي يعاني منها الشعب! ولو لم تقم الثورة لظل «الإخوان» يتمددون في صمت ومكر حتى يمسكوا بمزيد من ركائز القوة المادية والبشرية، وحين يحوزون السلطة بعدها يكون من الصعب، إن لم يكن من المستحيل، إزاحتهم عنها سنين طويلة، سواء بصندوق الانتخابات، الذي كانوا سيزوّرونه بعد أن تعلموا كل دروس الحزب الوطني الفاسد في هذا وزادوا عليها الكثير، أو من خلال احتجاج، كان أنصارهم وقتها سيتصدّون له بقسوة. كما فضحت الثورة تهافت المسار السلفي، فقبل الثورة كان بعض الشيوخ المحسوبين على هذا المسار لهم في نفوس الناس هيبة ومكانة، فكلامهم مصدق، ووعظهم مستساغ، وطلبهم مستجاب، وكان هؤلاء يقومون حثيثاً بتغيير طبيعة التدين المصري الوسطي، ويحاولون في بطء تهميش المؤسسات الدينية التي بناها المصريون في قرون طويلة، وعلى رأسها الأزهر، ويغيرون وعي الناس حيال الكثير من أمور الحياة. ولو لم تقم الثورة لظل هؤلاء يتمددون بلا توقف، حتى يصبح أتباعهم بعشرات الملايين، ووقتها سيصلون إلى السلطة، بتحالف مع «الإخوان» أو من دونهم، ولن يستطيع أحد إزاحتهم للأسباب السابقة ذاتها. وحتى لو لم يطلبوا الحكم أو يسعوا إليه فإنهم سيحرثون الأرض أمام «إخواني» أو متطرف آخر ليقتنص العرش، وإن لم يفعلوا ذلك، فعلى الأقل سيغيرون الكثير من قيم المصريين واتجاهاتهم ومعارفهم، وهذا يشكل خطراً داهماً على المجتمع، وعلى طبقاته الحضارية والثقافية التي تراكمت عبر آلاف السنين. وعلاوة على هذا حققت الثورة أيضاً ما نسميه «الاقتدار السياسي» الذي يعني ثقة الناس في أنفسهم، وهو شرط أساسي لأي حكم رشيد أو ديمقراطي، فالمصريون كسروا حاجز الصمت، ولم يعد بوسع أحد أن يسخر منهم أو يستهتر بهم، ما يشكل ضغطاً متواصلًا على أي نظام كي يعدل أو يستجيب لما يريده الناس. وإن لم يفعل كان بوسعهم التغيير مثلما جرى في ثورة يونيو العظيمة. وقد غيرت الثورة حتى بعض من كانوا ينتمون إلى الحزب الحاكم قبلها، ممن تعلموا الدرس، بعد أن كانوا يعتقدون أن سبيل التغيير الوحيد هو الانخراط في صفوف السلطة، ليتقدموا خطوات نحو المواقع السياسية أو المنافع المالية، وكانوا يتصورون أن الشعب عاجز عن الفعل، وأن الرافضين للحكم السابق يطلبون المستحيل. كما غيرت من نفوس الملايين الذين كانوا مستسلمين لكل ما يجري، وهم ما سميناهم «حزب الكنبة» الذين رأيناهم في الشوارع بعشرات الملايين يسحبون «الإخوان» من على العرش. وقد تعززت المشاركة السياسية بعد الثورة، حيث كان الإحجام عنها آفة مصرية، ومرضاً عضالًا، مما مكن بعض السلطات المتعاقبة من تزوير إرادة الناس، والانفراد بالقرار، وتوظيف إمكانيات الدولة الرمزية والمادية ضد مصالحهم. فبعد الثورة بدأنا نعرف ظاهرة طوابير الانتخابات الطويلة، وبات المواطن مدركاً أن صوته يمكن أن يغير التاريخ، أما قبل الثورة فكان الشعار السائد: «ستفعل الحكومة ما تريد رضينا أم أبينا». وقبل الثورة كان أقصى أماني المعارضة أن تتم تنقية الجداول الانتخابية، أو يسمح بالتصويت بالرقم القومي، وهو ما تم بعد الثورة، علاوة على ضمانات عديدة للنزاهة، عبر إشراف القضاء، ووجود لجنة عليا مستقلة لإدارة الانتخابات، ونقل عملية التصويت على الهواء مباشرة في وسائل إعلامية عديدة. كما عدلت الثورة الكثير من الأطر السياسية والقانونية الحاكمة، بعد تهذيب صلاحيات الرئاسة، وإقرار توازن بين السلطات في الدستور، وتحديد قواعد للتعددية السياسية وتداول السلطة. وفي هذا خير كبير، إذ إن أغلب الآفات التي أصابت مصر قبل الثورة جاءت من تقديم أهل الثقة على أهل الخبرة، وقد انحرف بعض أجهزة النظام عن مهمتها، وكبر أصحاب الاحتكارات واتسعت الهوة بين الطبقات.