«وعندما تبدو الحياة نفسها مخبولة، من يعرف أين يكمن الجنون»، يسأل أحد أكثر أبطال الروايات العالمية شهرة «دون كيخوته»، ويضيف «لعلّ الجنون أمر عملي جداً، أن تستسلم للأحلام، هذا ربما هو الجنون. والكثير من العقل قد يكون جنوناً، وأكثر الأمور جنوناً: أن ترى الحياة كما هي، وليس كما ينبغي أن تكون». واليوم كيف نرى الحياة كما هي، أو كما ينبغي أن تكون وقد ضاعت الأنباء في الأنباء. فالإعلام كالاقتصاد، حيث النقود الرديئة تطرد النقود الجيدة، وسبب رداءة كليهما التسابق على توفير السلعة، والفائز من يطرحها قبل الجميع، كيفما تكون. في التغطية الفورية لمشهد استئناف صدور «شارلي إيبدو» رَكَّزت الفضائيات على تحدّي الصحيفة الفرنسية للمسلمين بإصدارها ثلاثة ملايين نسخة، وعلى غلافها رسم للرسول يذرف الدموع. وفي نظام لا نعرف حتى الآن رقم رشوة القذافي لرئيسه السابق، قد نُسّلم برقم ثلاثة ملايين، وحتى خمسة ملايين، الذي أُصبح لاحقاً، لكن كيف نُكَذب «تسونامي» الذي انطلق الأسبوع الماضي من سويسرا، الملاذ الآمن للأموال؟ و«تسونامي» قرار «البنك الوطني السويسري» إلغاء السقف المفروض على سعر الفرنك، والذي «يعصف بقطّاعي الصادرات والسياحة ، وفي النهاية بالبلد بأكمله»، حسب رائد الأعمال اللبناني السويسري «هايك»، مؤسس شركة ساعات «سواتش». وفي ما يقوله هايك «كثير من العقل الذي قد يكون جنوناً». فإلغاء السقف يفتك بمكانة سويسرا القائمة على استقرار نظامها المالي، وسمعة مصارفها العملاقة، التي جعلتها «الملاذ الآمن» لأموال المستثمرين، لكن سويسرا لا تعيش فقط على حفظ أموال الآخرين، بل على تصدير منتجات صناعاتها الصيدلية، ومعداتها الدقيقة، والجنون أن تستمر في شراء المزيد من «اليورو»، حفاظاً على «اليورو»، وهي ليست عملتها الوطنية. وعندما تحدث تحركات عملاقة في السوق توقع أن يخسر كثير من الناس أطناناً من النقود، وتحدث عواصف في اقتصادات النفط، وحتى في بلدان أوروبا الشرقية، حيث حصل الناس على قروض مصرفية لشراء منازلهم بالفرنك السويسري، والآن عليهم دفع أقساط فوق قدرتهم. و«الفرنكات والجزع والحماقة» عنوان مقالة «بول كروجمان» عالم الاقتصاد الأميركي، الذي دعا «حتى الذين لا يملكون حصة مالية مباشرة عليهم الشعور بالخوف. فالمخاض المؤلم للنقد السويسري صورة مصغرة عن صعوبة مكافحة إعصار الانكماش الاقتصادي، الذي يجرف كثيراً من الاقتصاد العالمي». ويواصل عالم الاقتصاد، الحاصل على «نوبل» التذكير بأن العالم لا يزال رهن الأزمة المالية لعام 2008، والتي جعلت ما كان يعتبر فضائل في كثير من الأحوال رذائل. «فالرغبة بالادخار أصبحت عائقاً للاستثمار، والاستقامة المالية طريقاً للركود الاقتصادي، وسمعة سويسرا المشهورة بالمصارف الآمنة والضمانة المالية أصبحت عالة». ونبّهت افتتاحية «نيويورك تايمز» إلى أن «عملة اليورو تتعثرُ وتتطَّوحُ»، وذكرت أن المستثمرين توقفوا أخيراً عن تصديق «القصص الخيالية» لقادة أوروبا ومصارفها الذين يواصلون التأكيد منذ سنوات على أن السياسات الاقتصادية ستحيي قريباً اقتصاديات منطقة «اليورو»، فيما انخفض سعر «اليورو» بالمقارنة مع الدولار إلى أدنى مستوى له منذ تسعة أعوام. وتوقفت المستشارة الألمانية عن إلقاء مسؤولية الانخفاض على بلدان الأطراف، كإسبانيا واليونان. فهذه البلدان فعلت كل ما هو مطلوب منها لضبط اقتصاداتها، واستقطعت من دون رحمة نفقات الخدمات العامة، والتقاعد، وزادت الضرائب ، ومرّرت قوانين تُسّهل للشركات والحكومات تسريح العاملين، والعرب والمسلمون أول من يُسّرحُ وآخر من يعاد للعمل. وقد تحسّن قليلاً اقتصاد بعض هذه البلدان، لكن نحو ربع قوتها العاملة لا تزال عاطلة. وتَعَرَّشت مشكلة الأطراف حتى بلغت المركز الذي يتطوّحُ الآن. وفي العام الماضي لم يتحقق أي نمو حقيقي في أكبر اقتصادات أوروبا؛ ألمانيا وفرنسا وإيطاليا. إنه الاقتصاد يا أوروبا، و«كل شيء في فرنسا ينتهي على هذه الشاكلة، كل شيء؛ الأعراس، وطقوس التعميد، والمبارزات، والدفن، والاحتيالات، والمسائل الدبلوماسية؛ فكل شيء ذريعة لعشاء جيد». قال ذلك الكاتب المسرحي الفرنسي جان أنوي، فيما يواصل «دون كيخوته» محاربة الطواحين الهوائية. «ألا ترى؟ هذا العملاق الوحش الشرير الذي عزمتُ على مواجهته». يقول تابعه سانشو بانزا: «هذه طاحونة هوائية»، دون كيخوته يؤكد: «عملاق، ألا تستطيع رؤية أذرعه الأربعة الضخمة التي تُدّومُ خلفه؟». سانشو بانزا يسأل «عملاق؟»، دون كيخوته يجيب «بالضبط».