على امتداد أربع سنوات بعد نجاح الثورة التونسية ضد نظام بن علي، ظلت تونس تواجه بمرارة أسئلة الثورة الكأداء نفسها، التي أدت أصلاً إلى نشوبها، من تفشي البطالة في صفوف الشباب المؤهلين، واختناقات النظام الاقتصادي المزمنة، وتدافع مفردات المشهد السياسي المتوثبة، إلى دخول المشاغل الأمنية الضاغطة على خط مشكلات بلد اكتشف من خبرة السنوات الأربع الماضية أن النصف الفارغ حقاً من الكأس هو الثورة، وأن حل مشكلات الناس المعيشية ومنحهم فرص أمل وعمل هو الثورة الحقيقية، وأن اجتراح الحلول الناجعة لهذه المشكلات، لا ترحيلها وإخفاءها تحت غطاء كثيف من الخطابة والنضالات الشعاراتية المستوردة، هو عنوان المرحلة الآن، وأن تجاهل التحديات المستفحلة وعدم الاستجابة لها هو جوهر فشل النظام الذي كان الشعب يرفع شعارات المطالبة بإسقاطه. وقد استوعب التونسيون معنى هذا الدرس جيداً خلال الانتخابات الرئاسية الأخيرة حيث صوتوا للمرشح الباجي قائد السبسي، لأنه هو الأكثر خبرة، والأقل خطابية، فضلاً عن كونه ذا تجربة واسعة في تسيير وتدبير أمور الشأن العام. ولكنهم أيضاً احتفظوا في أذهانهم من الثورة ببعض الأهداف والديباجات العريضة والمحاذير التي أدت بهم للخروج أصلاً إلى الشارع، وفي مقدمة تلك المحاذير خطر الأحادية الحزبية، وتغوُّل مكوِّن سياسي أو حزبي واحد بالجمل وما حمل، ولذلك لم يفز حزب «نداء تونس» بالعدد الكافي من المقاعد التشريعية الذي يسمح له بالانفراد بالمشهد السياسي، وجاء حزب «النهضة» والأحزاب الأخرى أقل نتائج منه بكثير، وهو ما عنى، استطراداً، أن التفويض الذي منحه الشعب التونسي للقوى السياسية المدنية، مشروط بعدم تفرد أي حزب بكافة المواقع المفاتيح في الحكومة، وهو بمعنى آخر دعوة أدبية وضمنية لعدم استئثار حزب «نداء تونس» الفائز بكافة المناصب العليا، وهي رسالة يبدو أن الرئيس السبسي قد التقطها سريعاً، فوقع اختياره على الحبيب الصيد، السياسي المستقل، ورجل الدولة التكنوقراط، ذي الخبرة المديدة، ليكون على رأس حكومة قادرة على تحقيق إجماع وطني، والاستجابة لتحديات المرحلة، ولا تشكل أيضاً نكوثاً بالوعد للجسم الانتخابي الذي صوت له بالأغلبية. ولكن من هو الحبيب الصيد؟ هنا نبذة خاطفة عن سيرته الشخصية، ومسيرته المهنية. ولد الحبيب الصِّيد، الذي ينطق اسمه بكسر الصاد وتشديدها، في مدينة سوسة في 1 يونيو 1949 حيث تلقى تعليمه، وتحصل على شهادة الإجازة في العلوم الاقتصادية من كلية القانون والاقتصاد بتونس سنة 1971، ثم تخرج مهندساً زراعياً في تخصص الاقتصاد الفلاحي من جامعة «مينوسوتا» بالولايات المتحدة سنة 1974، وعاد إلى تونس لينخرط في مسيرة مهنية مديدة، بدأها بتولي مسؤولية الدراسات في الإدارة العامة للهندسة الريفية من سنة 1975 إلى 1980، فرئيساً مديراً عاماً لديوان إحياء المناطق السقوية بقفصة والجريد بالجنوب التونسي من 1980 إلى 1988، وتولى بعد ذلك مهام المندوب الجهوي للتنمية الفلاحية في ولايتي القيروان، وبنزرت في أقصى شمال البلاد في 1989. وفي سنة 1993 عين الصيد رئيساً لديوان وزير الفلاحة، الذي أمضى فيه أربع سنوات إلى 1997، حيث تولى رئاسة ديوان وزير الداخلية وظل في هذه المهمة إلى سنة 2001 التي عين في بدايتها كاتب دولة لدى وزير الفلاحة مكلفاً بالصيد البحري. وفي السنة التالية 2002 نقل كاتب دولة في الوزارة نفسها مكلفاً بالبيئة. وبعد قرابة سنتين في هذا المنصب، ذهب في سنة 2004 لتولي منصب المدير التنفيذي للمجلس الدولي لزيت الزيتون، ومقره في العاصمة الإسبانية مدريد، حيث بقي هناك ست سنوات حتى 2010. وبعد سقوط نظام بن علي في سنة 2011 عين وزيراً للداخلية في 28 مارس من تلك السنة، وحين تم تشكيل حكومة الترويكا برئاسة حمادي الجبالي، القيادي في حركة «النهضة»، عُين الصيد مستشاراً للأمن القومي في أبريل سنة 2012 وظل في هذا المنصب عاماً حتى مارس 2013 حيث انسحب، أو استقال، على خلفية أحداث عنف عاصفة ضربت تونس بلغت الذروة مع اغتيال القيادي اليساري شكري بلعيد. وفي 5 يناير الجاري وقع عليه اختيار الرئيس الجديد الباجي قائد السبسي وعينه رئيس وزراء وكلفه بتشكيل الحكومة. ومن هذه السيرة والمسيرة يلاحظ أن الحبيب الصيد يمتلك ورقتي خبرة أساسيتين للمهمة الصعبة التي تنتظره في قصر القصبة على رأس الحكومة، هما معرفته العميقة بتونس الأعماق بحكم تجربته المهنية السابقة في أقصى الجنوب التونسي، وفي مناطق أخرى أيضاً بالشمال والوسط، هذا فضلاً عن كونه هو نفسه أحد أبناء الساحل. وفي ذات الوقت تعتبر خبرته الأمنية والاقتصادية الكبيرتين أيضاً سبباً أساسياً لاختياره وزيراً أول الآن وتونس تواجه حالة اقتصادية بالغة الصعوبة، وتتهددها تحديات أمنية داخلية وخارجية عديدة يأتي في مقدمتها تصاعد مد الجماعات الإرهابية وأعمال العنف التي تسببت فيها ورفعت من درجة القلق والاستياء في الشارع التونسي، معطوفة على بروز ظاهرة التونسيين «الجهاديين» المتطرفين، الذين ينشطون في سوريا والعراق وليبيا وغيرها من بؤر توتر. وفوق هذا كله تجد تونس نفسها أيضاً في مواجهة الحريق الليبي، حيث تستضيف مئات الآلاف من أبناء تلك الدولة المغاربية غير المستقرة، ما يؤثر سلباً على الاقتصاد التونسي الهش والقدرة الشرائية للمواطن التونسي، وخاصة مع تراجع مداخيل السياحة إلى حد كبير، خلال سنوات ما بعد الثورة. وفوق هذا وذاك يستجيب أيضاً تعيين الصيد لمطلب سياسي آخر مهم في السياق التونسي، كونه سياسياً مستقلاً وليس من حزب «نداء تونس» الحاكم وإن كان في الوقت نفسه مقرباً من الرئيس السبسي ويعد من رجال ثقته، وأيضاً لا مشكلة معروفة لديه مع أي طرف آخر من أطياف المشهد التونسي، وهذا ما يجعله رئيس حكومة بمقاس المرحلة، قادراً على استقطاب إجماع، ومواجهة مشكلات الاقتصاد بالحنكة والخبرة، وأيضاً ذا خبرة أمنية كبيرة ستفيده في وجه الجماعات الإرهابية، وفي هذا الوجه بالذات قد يستدعي أبناء البلد في أذهانهم معنى اسمه «الصيد» -التي تعني في اللهجات المغاربية «الأسد»- وهو سبب آخر أيضاً لاعتباره رجل المرحلة اليوم في تونس. حسن ولد المختار