لم يكن مرتكبو أعمال الرعب في «شارلي إيبدو» مسلمين ملتزمين أغضبتهم إهانات موجهة لعقيدتهم، ولم يدفعهم ورعهم وتقواهم، ولا هم أرادوا أن يوجهوا ضربة لـ«حرية التعبير»، وإنما كانوا وقوداً سياسياً رديئاً، وكان مسعاهم هو إحداث أكبر تأثير ممكن.. كانوا قتلة.. السذاجة هي وصفهم والحماقة هي ديدنهم. والحقيقة أنني أؤمن بحرية التعبير، ولكن مع الحرية تأتي المسؤولية. وقد كان البابا فرانسيس محقاً، عندما قال: «لا يجوز استفزاز أو إهانة عقائد الآخرين أو السخرية من دياناتهم». وفي الوقت ذاته، أشعر بذعر شديد من قتلة الصحفيين الأبرياء. وكما قال فرانسيس أيضاً: «لا يمكن للمرء أن يرتكب هجوماً أو يشنّ حرباً أو يقتل باسم الدين، وباسم الإله، فالقتل باسم الله ضلال». ولا شك أن من الخطأ أن نوجّه إهانة لأحد، ولكن الخطأ الأعظم هو أن نقتل من يهيننا، خصوصاً إذا كان ذلك بزعم أنه باسم الإله. وبقدر شناعة أعمال القتل في «شارلي إيبدو»، كان القتلة في متجر «كوشر» الباريسي أشد شناعة وبشاعة؛ ذلك لأن دافعهم كان أشد أنواع معاداة السامية، وهو قتل يهود لا لشيء سوى أنه قدّر لهم أن يكونوا يهوداً في المكان والتوقيت الخاطئين. وما ينبغي أن يكون واضحاً هو أن فرنسا لديها مشكلة، فمعظم المسلمين فيها يأتون من مستعمرات فرنسية سابقة، حيث كانت السلوكيات في عهد الاستعمار وحشية ومؤذية. وأثناء تلك الفترة حُرم الجزائريون مثلاً من هويتهم ولغتهم وحقوقهم. ونظر الفرنسيون إليهم وتعاملوا معهم على أنهم أقل إنسانية. وبعد جيلين، جاء بعض الجزائريين الذين كانوا قبل ذلك خاضعين للاستعمار يبحثون عن الوظائف والفرص. ولكنهم وجدوا أنفسهم محتجزين في فخ الفقر، ضمن الطبقة المهمشة. ومن الضروري أن نفهم هذا السياق من أجل إدراك المرارة التي يشعر بها كثير من الفرنسيين المسلمين عند مشاهدة أفراد من النخبة الإعلامية أو الثقافية الفرنسية تقلل من شأن دينهم. وبالطبع، لا يبرر ذلك بحال من الأحوال أعمال القتل المرعبة التي وقعت في صحيفة «شارلي إيبدو». فلم يخطف الإرهابيون لأنفسهم الدين الإسلامي فحسب، ولكن أيضاً الأذى الذي أصاب المسلمين الآخرين ممن شعروا بالإهانات الموجهة إلى عقيدتهم من قبل الثقافة الفرنسية العلمانية المهيمنة. والشعور بالاستياء من الأذى أمر مشروع، ولكن أعمال القتل الإرهابية لا مبرر لها أبداً. وفي فرنسا مشكلة أخرى، فهي ترحب بالمهاجرين، ولكنها أيضاً قد لا تستوعبهم. وفي المقابل، كما أشار الرئيس أوباما صراحة في مؤتمر صحافي خلال الأسبوع الجاري، يأتي المهاجرون إلى الولايات المتحدة وفي غضون جيل يصبحون أميركيين، ويشقون طريقهم في مسار الحراك الاجتماعي والاقتصادي. ويرجع ذلك إلى سببين، أولهما: أنه على رغم تشدق بعض المتعصبين، إلا أن فكرة «كونك أميركياً» ليست هوية تعتمد على إثنية، وإنما هي مفهوم متغير مع مرور الوقت. والسبب الثاني مأساوي، وذلك لأن المهاجرين عندما يأتون إلى الولايات المتحدة لا يبدؤون من القاع لأن في أميركا طبقة شديدة الفقر من السود والإسبان، وكثير منهم توارثوا الفقر على مدار أجيال (إن لم يكن قروناً). ولكن هذا ليس هو الحال في أوروبا، إذ إن المهاجرين أصبحوا هم الطبقة الفقيرة، ولم يتم استيعابهم ضمن ثقافة تتغير بهم ومعهم. وقد مكث العرب في فرنسا على مدار أجيال، وكذلك الأتراك والأكراد في ألمانيا، والآسيويون الجنوبيين في المملكة المتحدة، ولكنهم ظلوا عرباً وأتراكاً أو باكستانيين. وقيل لهم «عليكم أن تصبحوا مثلنا إذا أردتم أن تكونوا جزءاً منّا». ولأنهم عندما يصبحون فرنسيين أو ألماناً أو بريطانيين تظل هوياتهم تعتمد على إثنياتهم، يجد المهاجرون أنه لا يمكنهم أبداً «أن يصبحوا مثلهم». وخلال الأيام التي أعقبت أعمال القتل في باريس، كان هناك عدد من المقالات أشارت إلى الصراعات من العراق إلى ليبيا، وأهاب أصحابها بالمسلمين أن يراجعوا دينهم! بيد أن قليلاً من تلك الآراء كان حسنة النية، وكان معظمها مخطئاً ودليل على التحامل الشديد ضد الدين الإسلامي. وخلال القرن الماضي، كانت أوروبا مسرحاً لحربين عالميتين داميتين أدتا إلى قتل عشرات الملايين. وتمخضت القارة عن النازية والفاشية في ألمانيا وإيطاليا، وعن الشيوعية والفوضى العنيفة. وشهدت أيضاً توسعاً للمؤسسة الاستعمارية الأوروبية في أفريقيا وآسيا والعالم العربي، كان مصحوباً بأعمال عنف رهيبة ومخزية في محاولات فشلت في النهاية لإخضاع الشعوب المستعمَرة التي قاومت محاولات الإخضاع. فهل سأل أحد في ذلك الوقت أو حتى الآن الأوروبيين أن يعيدوا النظر في أديانهم؟ أو هل أشار أحد إلى أن حالة القتل الجماعي تلك التي أحاطت بالقارة الأوروبية بشكل مفجع كانت لها جذور دينية دفعت إلى التوسع وحرّضت على القمع والعنصرية؟ ---------- رئيس المعهد العربي الأميركي - واشنطن