الحنين للتاريخ بمفرداته القديمة يجتاح كل فرد حينما يشاهد مسلسلاً تاريخياً يتحدث عن موروثه وإرثه التاريخي القديم، ولكنه لا يصل إلى درجة هوس يصرّ على إعادة إنتاج ذلك التاريخ في زمان غير زمانه، وظروف تختلف تماماً عن ظروفه، غير أن «الإخواني» رجب طيب أردوغان ينسى دائماً أنه رئيس لتركيا الأتاتوركية العلمانية التي تمتاز بنظام جمهوري له مراسمه وقوانينه الخاصة التي تختلف عن غيرها من النّظم الأخرى، فتصرفاته والعديد من أقواله تدلل على إعجابه اللامتناهي بالإمبراطورية العثمانية القديمة، بل وتتلبسه في كثير من المواقف أوهام سلطانيته الذاتية، وتأتي تصرّفاته في معظم الأحيان تقليداً للسلاطين لا الرؤساء، وحلمه الواهم بإعادة الإمبراطورية العثمانية والمصطدم بعقبة حلم آخر بدخول الاتحاد الأوروبي ظلّ واضحاً في مختلف أفعاله وأقواله وتصرّفاته ورهانه على «الإخوان» المتأسلمين، وتبقى فعائله «الإخوانية» الواضحة دليلاً آخر على ذلك. وبعيداً عن «إخوانية» أردوغان، فإن حلم العودة للإمبراطورية العثمانية الآفلة تجسّد في كل تصرفاته، ومن ذلك القصر الخرافي الذي بناه على طراز قدامى السلاطين العثمانيين، والبلاط الأشبه بالبلاطات السلطانية والملكية التي ترسمها ديكورات الدراما التاريخية والتوثيقية، فالقصر الرئاسي الذي استلهمت هندسته من الهندسة العثمانية والسلجوقية، يتكون من ألف غرفة ويمتد على مساحة مئتي ألف متر مربع ما يوازي تقريباً نصف مساحة دولة الفاتيكان. ولم يحفل أردوغان عند بناء القصر بانتقادات المعارضة ولا نداءات البيئيين الذين أعلنوا معارضتهم لإبادة أشجار الغابة من أجل تحقيق حلم الإمبراطور العثماني الجديد! البابا فرنسيس كان من السبّاقين لزيارة تركيا والتّمتع ببروتوكولات هذا القصر السلطاني للرئيس «الإخواني»، فقد جرت مراسم الاستقبال في بروتوكول غريب يشبه سيناريوهات الأفلام التاريخية من أناشيد واستعراضات مختلفة للدرجة التي خاطب فيها البابا الحرس باللغة التركية متهكماً وهو يقول «مرحباً بالعسكر». لم يمرّ وقت طويل على استقبال أردوغان للبابا في قصره الأبيض المثير للجدل حتى حان لقاء الرئيس الفلسطيني محمود عباس، الذي تجمعه بأردوغان مواقف متناقضة، يأتي على رأسها دعم أردوغان لـ«حماس» تلبية لرابط «الأخونة»، وتأييده لغريمه مشعل الذي يساهم معه الآن بطرق مباشرة وغير مباشرة في إشعال جذوة نار المنطقة، ورغم ذلك كان اللقاء بروتوكولياً على الطريقة الأردوغانية، فالمراسم جاءت على شاكلة أمجاد 16 إمبراطورية تركية، بدءاً من قبائل «الهون» التي احتلت معظم أوروبا قبل 1650 سنة، إلى زمن السلاجقة ثم زمن العثمانيين البائدين في أوائل القرن العشرين، بينما طريقة الاستقبال كانت أشبه بالدراما، فالسلطان «الإخواني» نزل من على سلم قاعة استقبال كبيرة يحيطه من الجانبين 16 محارباً من حملة الرماح والسيوف، ويرتدي كل منهم زياً عسكرياً يمثل حقبة مرت عبر 2200 عام من التاريخ التركي، رغم أن لحى وشوارب بعض المحاربين لا تتطابق مع الحقب التاريخية بدقة، وبعضها كان من شعر صناعي. الصحفيون والمغردون الأتراك قابلوا اللقاء بسخرية واضحة، فبعضهم وصفه بحلقة جديدة من حلقات مسلسل حريم السلطان الشهير الذي سبق لأردوغان الحديث عنه وإظهار إعجابه به وولعه الشديد بالسلطان سليمان القانوني الذي تناوله المسلسل، بينما قال البعض إنه مجرد سيرك عثماني في القصر الرئاسي، وبتقنيات الفوتوشوب رسمه بعضهم محاطاً بشخصيات الفيلم الأميركي «ذي أفنجرز» أو «المنتقمون». القصر الذي تحدّى به أردوغان كل معارضيه الأتراك وحقق حلمه الكبير الواهم بإعادة إنتاج الإمبراطورية العثمانية الآفلة، يذكّر أردوغان دائماً ويومياً بحلمه، فالمراسم العثمانية التي استقبل بها البابا وعباس تحمل دلالات قوية على ذلك، وتدخلاته المختلفة في القضية الفلسطينية التي ناصر فيها طرف على حساب آخر لا لسبب سوى أن الطرف يشاطره «الأخونة»، وفتحه في بداية الأمر كل أراضي الدولة التركية ممراً لوصول الإرهابيين إلى «داعش»، ثم رفضه في بادئ الأمر أيّ تعاون مع التحالف الذي تشكّل للقضاء على الإرهاب، وعلاقاته المشبوهة مع إيران وبعض دول المنطقة، كلها دلالات تمكّن القارئ الحصيف لقراءة ما يدور في عقل أردوغان وما ينوي فعله بالمنطقة، فقد تخلص أولاً من بعض خصومه الداخليين بالسجون، ودخلت يداه في سطور القوانين بتعديلات منحته مزيداً من صلاحيات السعي لتحقيق حلمه الواهم الذي ضلّ الحلّ لمعادلته الطريق، فهو من ناحية يريد أن يكون بدولته جزءاً من الاتحاد الأوروبي، وذلك بسبب اعتقاده الواهم أن تحوّله لدولة أوروبية سيخوّل له إطلاق يده في المنطقة دون ضجيج، فيتحالف ويقصف ويستعمر ليعيد السلطنة العثمانية الآفلة التي احتلت المنطقة العربية سنوات طويلة، وأعاقتها عن التقدم، وبين إعادة تلك الدولة التي حكمت في زمان مختلف، ووقت كانت نسبة الأمية والتخلّف بين شعوب المنطقة عالية للغاية، ولم تتمكن كل المواقف والانتقادات التي تعرض لها أردوغان من انتشاله عن وهمه الكبير المنتظر عودة الإمبراطورية الآفلة، وما يجب على أردوغان تصديقه هو أن سليمان القانوني مات بخيره وشرّه وانتهى عصره. كاتب إماراتي