كنتُ قد شاهدتُ تحقيقاً مصوراً عن موظفة تبلغ من العمر مئة سنة وما زالت على رأس العمل بدوام كامل في شركة بـ«كولورادو»، وأصبحت هذه المرأة علامة مميزة، كونها تعمل بها منذ أكثر من نصف قرن. عندما سألوها متى ستتوقفين عن العمل! أجابت بابتسامة واثقة.. «لا نيّة عندي لذلك. العمل يُبقيني شابة» متابعة بأنها فخورة لأنَّ الشباب المعينين حديثاً يتعلمون منها الكثير، ويلجأون إليها حين يستعصي عليهم أمر من أمور الشركة التي تعرف كل شاردة وواردة فيها. هذه المرأة أقل ما يُقال عنها بأنها فولاذيّة الإرادة، وصورة جميلة للإنسان بألا يكفَّ عن العطاء ما دام قادراً على ذلك. وقد حضرت صورتها بذهني، وأنا اتابع حواراً تلفزيونياً مع عالم النفس المصري الشهير الدكتور أحمد عكاشة، حيث سأله المحاور عن الشباب الذين يشتكون من أنّهم مهمشون في الحياة العامة بمجتمعاتهم، وطالبه بأن يُحدد عمر الشباب! أجاب عكاشة بأن مفهوم الشباب من وجهة نظره من يظلوا يافعين من أعماقهم وقادرين على العطاء وتحقيق إنجازات ثرية في وظائفهم، بصرف النظر إن كانوا في الأربعين أو الخمسين أو تجاوزوا حتّى الستين والسبعين من العمر! مع احترامي لرأي الدكتور عكاشة إلا أن مفهوم الشباب من وجهة نظري ونظر الكثيرين من يكن بربيع عمره ومستقبله لم يزل يُلّوح له من بعيد ويحثّه كي يلحق به، فيعدو بكل ما أوتي من عنفوان الصبا للإمساك به قبل أن تفلت الفرصة وتضيع منه أحلامه وسط الزحام مع تقدّم عمره. كما أعتقد بأن هذا المفهوم لا ينطبق على المرء الذي تجاوز سن الشباب وأصبح مستقبله بالكاد قادراً على المشي خلفه. يُحزنني كم الإحباطات التي يُعانيها الشباب العربي التي أصبحت البطالة تنهش جسد مجتمعه نتيجة التردي الاقتصادي والاضطرابات السياسية التي تشهدها منطقتنا العربية، إضافة إلى آفة الفساد التي تغلغلت بأرضيّة أغلبية مجتمعاتنا، وهو ما جعل الشباب العربي يجلس على القهاوي ينفّث عن همومه للرائح والعائد، وعندما يفيض به الكيل يُناشد ذويه لبيع كل ما يملكان كي يلحق بواحدة من مراكب الموت المهاجرة حتّى يقضي على حظّه العاثر في بلد آخر يُخلّصه من الفقر ويحتضن أحلامه، هذا إذا لم تنهشه قروش البحر قبل أن يصل مركبه آمناً للشاطئ! جميل أن نُقدّر إنجازات العجائز، وأن لا نصر على دفنهم أحياء باقصائهم عن الحياة العامة، فليس هناك أجمل من أن يموت المرء واقفاً، وإن بلغ من العمر عتيّا! ومن حقّه أن يستمتع بحياته ويُمارس ما يُحبه، ولكن شريطة ألا يكون على حساب الشباب وإقصائهم عن المشاركة بالحياة السياسيّة، وسد المنافذ أمامهم لتقلّد المناصب الحيويّة، وتقليص الفرص الوظيقيّة لهم. في أوروبا نجد الكثير من الوزراء لا تتجاوز أعمارهم الأربعين عاماً لإيمان مجتمعاتهم بأن لديهم أفكاراً ومقترحات جديدة تخدم مجتمعاتهم، في الوقت الذي ننظر لهذه الفئة العمرية نظرة تشكيك ودونيّة، وأن الحياة لم تطحنهم بعد بتجاربها الحياتيّة، وبالتالي لا يحق لهم قيادة مجتمعاتهم! هذا السلوك الظالم يُعتبر قمّة القسوة في التعامل مع شبابنا. كنتُ أتمنى من عالم النفس الكبير "عكاشة" أن يغتنم فرصة هذا الحوار الشيّق، بأن يُطالب المجتمعات العربيّة بأسرها باحتضان الشباب، الذين للأسف أضطر بعضهم اللجوء للجماعات التكفيريّة التي أغرتهم بالمال وبمستقبل مضمون لكي يندمجوا تحت لوائها ويتحدثوا باسمها بعد أن خذلتهم مجتمعاتهم وأعطتهم ظهورها. نحن كما نحتاج لحكمة الشيوخ، بحاجة لعنفوان الشباب لتحقيق المعادلة الصحيحة. التوازن مطلوب حتّى لا ينفرط عيار مجتمعاتنا! ـ ــ ـ كاتبة سعودية