على ضوء العمليات الإرهابية البغيضة التي تم تنفيذها في فرنسا مؤخراً وقضت على عدد من الأرواح البريئة التي لا ذنب لها، يمكن للمرء القول بأن الإرهاب لا يزال حياً يرزق رغم كافة المحاولات التي تبذل للقضاء عليه، فهو صبغة من العنف التي تستهدف عن قصد الأهداف المدنية وأرواح المدنيين دون تخطيط أو سابق إنذار أو مشروعية محددة لتحقيق أهداف يمكن للعقل والضمير البشري أن يتقبلها. لذلك، فإن الإرهاب المعاصر الذي يعصف بعالم اليوم يجب أن يتم فهمه بأنه عملية آخذة في التطور على مدى زمني طويل، عوضاً عن أن يفهم بأنه سلسلة من العمليات الآنية العابرة التي تهز الموقف الإنساني العام للحظات قصيرة ثم تختفي إلى غير رجعة. إن أوضاع الإرهاب الحالي حول العالم تشير إلى غير ذلك تماماً. المنهج الذي نطرحه في هذه السطور ربما سيساعد العالم على وضع الأحداث الطوفانية المزلزلة التي يحدثها الإرهاب، والإرهابيون حول العالم بدءاً بما يفعله "الإخوان" في مصر، مروراً بما يفعله "داعش" في العراق وسوريا، وانتهاء بما أحدثه الإرهابيون الأفراد في فرنسا هذا الشهر، وما قد يفعله آخرون في كل بقعة من بقع الأرض في منظور مقارن جديد يخدم الباحثين في علم السياسة وصناع القرار السياسي لوضع مناظير جديدة لمكافحة الإرهاب، ورصد ما تم حتى الآن من وسائل لمكافحته والتي ثبت عملياً بأنها غير مجدية أو فعّالة لأن منطلقاتها غير صحيحة ولا تقوم على أسس واضحة توصل من يعمل على مكافحة الإرهاب إلى مسبباته الحقيقية ومنابعه، لكي يتم القضاء عليها وتجفيفها، لأنها في مجملها عبارة عن ردود أفعال على أفعال إرهابية طارئة. من هذا المنطلق، فإن المنهج الذي نطرحه يتجنب بشكل كامل الافتراض الكارثي الخاطئ بأن الراديكالية الدينية والإرهاب، هما أمران مترادفان لا يمكن الفصل بينهما. ومن منظور طويل الأمد، ما حدث في فرنسا مؤخراً لا يشكل تراكماً لنمط أو توجه قديم في نفس الوقت الذي لا يشكل فيه ظاهرة جديدة تماماً، ما أريد قوله بالتحديد هو أن الإرهاب بكافة أشكاله وتجلياته ليس باستراتيجية ساكنة تقوم فقط بالتوافق الآني مع الظروف القائمة وتستفيد من التقدم التكنولوجي، أو هو دول تأخذ في اعتبارها المحاذير الفعالة لمكافحته، أو أيديولوجيات وأسباب مختلفة تحرك العنف المنظم، لكن توجد له وفيه طبيعة استمرارية مهمة، يقوم أصحابه بتوظيفها واستغلالها بطرق ماكرة ومخيفة ورهيبة. وفي هذا المقام نود التأكيد بأن ما طرحناه أعلاه لا يقصد به أن الهزّة التي تعرّض لها المجتمع والأمن الفرنسي، ومجتمعات دول الاتحاد الأوروبي بشكل عام والتداعيات التي ستتمخض عنها في المستقبل ليست بهزة غير عادية لمجتمع يعيش في بحبوبة من المسالمة منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية. وقبل موجات الإرهاب التي تضرب دول ومناطق العالم الواحدة منها تلو الأخرى، لم يكن أي من أصحاب علم السياسة، ومحدثكم منهم، وراسمي السياسة ومتخذو القرار كان ينكر أو يعتقد بأن ظاهرة خطيرة هي الإرهاب ستبرز أمام العالم بهذه الفظاعة لكي تشكل تهديداً خطيراً على الأمن الداخلي للدول أو على الأمن والسلام العالمي بهذه الطريقة التي يقف أمامها العالم حائراً وغير قادر على القضاء عليها واجتثاث جذورها. لكن تبقى الحقيقة القائمة بأن العالم يحاول من خلال تبنيه لمحاذير دراماتيكية ضمن ما يسمى «بالحرب العالمية على الإرهاب» التي تضمنت الغزو العسكري لأفغانستان والعراق، وإعادة ترتيبات الأمن الداخلي في عدد من الدول العظمى والكبرى، وتنفيذ العديد من الاستراتيجيات الاستخبارية والعسكرية التي أثبتت فعاليتها، لكن العملية لم تنته بعد، والإرهاب لا يزال حياً يرزق.