انطوت الأحداث المتلاحقة التي شهدتها باريس مؤخراً على عنصر المفاجأة بالنسبة للمحللين الأميركيين، وبشكل خاص سياسيي النخبة الذين واكبوا انتشار ظاهرة الخوف عقب هجمات 11 سبتمبر 2001 الإرهابية. وفي فرنسا، تجلّت نتائج عملية القتل الإرهابية الأسبوع الماضي بردّة فعل من العيار الثقيل ومن النوع الذي يخلو تماماً من جميع مظاهر الخوف. ومثّلت الحشود الضخمة لمئات الآلاف من الفرنسيين الذين تجمعوا في ميدان الجمهورية بباريس وعشرات المدن الفرنسية الأخرى، عصر الأربعاء الماضي، صرخة في وجه الإرهابيين والقَتَلة، وأوحت بالطريقة التي يجب التعامل بها مع كل من يتم القبض عليه منهم، ودفعت بالآلاف من رجال الشرطة لاحتلال الشوارع وإقامة المتاريس على مخارج ومداخل باريس. وأعطت الضوء الأخضر لقوات الأمن لتفتيش السيارات وعربات المترو والقطارات ومداخل الأبنية والطرود البريدية والتحقيق مع كل إنسان تظهر عليه علامات الشك والريبة. ورفع المتظاهرون لافتات كتبوها بخط اليد تقول: «كلنا شارلي». وفي يوم الأحد، تدفقت حشود ضخمة من الفرنسيين إلى الشوارع (أكثر من 3 ملايين في باريس وحدها) يقودهم الرئيس فرانسوا أولاند وعدد كبير من رؤساء الوزراء وقادة وممثلي 44 دولة ما عدا الولايات المتحدة. وحضر رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو الذي استغلّ المناسبة ليدعو اليهود الفرنسيين للهجرة إلى إسرائيل. وراح متظاهرو باريس والمدن الأخرى يلوّحون بأقلام الرصاص في الهواء تعبيراً عن تضامنهم مع الصحفيين الضحايا. وكانت هذه الأحداث كافية لحثّ سفارتنا الأميركية في باريس على توجيه تحذير لكل المقيمين والسيّاح الأميركيين في فرنسا لملازمة بيوتهم والابتعاد عن الشوارع. ولا يزال الفرنسيون في حالة حزن على الضحايا من الصحفيين وضباط الشرطة، إلا أنهم يتحلّون بروحهم المعنوية العالية وبفخرهم برجال الشرطة المدافعين عنهم. وقد كشفت هذه التظاهرات الصاخبة عدة أمور، من أهمها إقامة الدليل على أن الشعب الفرنسي بكل ألوانه وأطيافه اجتمع تحت راية الدفاع عن الجمهورية. ولعل الظاهرة المهمة التي لم تستأثر بالكثير من الاهتمام هي التظاهرات التي قامت في بعض المدن الفرنسية ضد بعض المقيمين المسلمين. وعلى رغم أن ما يحدث يوحي بنشوب حرب حقيقية على الإرهاب العالمي، إلا أن السؤال المهم هو: من الذي بدأ هذه الحرب، ومن الذي يمكنه إنهاؤها؟ لقد بقي هذا السؤال يحير الأميركيين منذ إطلاق الحرب الأميركية على الإرهاب. وكان الرئيس الأسبق جورج بوش هو الذي أطلق شرارة سلسلة الحروب الأخيرة في الشرق الأوسط عندما حرّض صدام حسين على محاربة عدو أميركا اللدود إيران. وتبعت هذه الحرب الخليجية الأولى، حرب الخليج الثانية التي أصبح فيها صدام ذاته هو العدو الجديد بسبب غزوه لدولة الكويت. ثم جاء دور بوش الإبن الذي غزا أفغانستان والعراق وحولهما بين عشيّة وضحاها إلى أراض يباب يسودها الدمار والخراب. وجاء دور أوباما الذي وعد بوضع حد قاطع لهاتين الحربين العبثيتين إلا أنه وجد نفسه متورطاً في حرب جديدة ضد المتطرفين في سوريا والعراق ممثلين في تنظيم «داعش» الإرهابي. وبدأ أوباما بتبني الفكرة الصائبة عندما تمكن من تحويل تلك الحرب إلى تدخل ذي طابع غربي. وتقضي تلك الفكرة بإعادة كل الجنود الأميركيين، بحيث تتمكن القوات الحليفة من المشاركة في المهمة وتعويض النقص الحاصل. وربما كان البروفيسور سامويل هنتينغتون على حق في أطروحاته السياسية فيما عدا القول إن البلاد العربية والصين هي التي ستشعل نيران الحروب بين الحضارات. ولم يتبادر إلى ذهن هنتينغتون التساؤل عمن سيتكفل بإنهاء تلك الحرب على رغم أن من الواضح أن الذي من يضع حدّاً لها لن يكون بأي حال من الأحوال أول رئيس أسود يحكم البيت الأبيض. -------- محلل سياسي أميركي ينشر بترتيب خاص مع خدمة «تريبيون ميديا سيرفس»