جاء رد الفعل بعد حادثة الحادي عشر من سبتمبر ضد الولايات المتحدة الأميركية أقوى بكثير مما توقع كثيرون، وأخذ شكلاً «متعولماً» لمواجهة تنظيم القاعدة الذي «تعولم» في رؤيته وتحركاته. وبدأ التوجه الذي أخذ يتبلور لدى الإدارة الأميركية منذ تفجيرات نيويورك في عام 1993 يدفع الأمور في طريق التعامل مع هذا التنظيم بجدية، وفي إطار شامل، أمني وعسكري واقتصادي وسياسي وإعلامي.. إلخ، الأمر الذي جعل المواجهة تأخذ طابعاً عالمياً، يكافئ التصور الذي سطره الظواهري على الورق حين قال في كتابه «فرسان تحت راية النبي»: «لا يمكن خوض الصراع من أجل إقامة الدولة المسلمة على أنه صراع إقليمي.. ولذلك فإننا تكيفاً مع هذا الوضع الجديد، يجب أن نعد أنفسنا لمعركة لا تقتصر على إقليم واحد». وهذه النزعة استمرت حتى بعد أن قامت الولايات المتحدة بضرب «طالبان» وإسقاطها من الحكم، وإفقاد تنظيم «القاعدة»، وفي قلبه تنظيم «الجهاد المصري» الحاضن السياسي والاجتماعي الذي يحميه ويوفر له إمكانات كثيرة يستخدمها سواء ضد الغرب أو ضد الأنظمة التي كانت تحكم الدول العربية في مرحلة ما قبل انطلاق الثورات والانتفاضات في عدة بلدان عربية، ولكن ظل الخطاب الأميركي طيلة الوقت يتحدث عن «القاعدة» دون أن يضع يده على موقع المتطرفين المصريين في هذا التنظيم. وقد ساح بقايا قيادات «الجهاد المصري» في أراضٍ عديدة بعد سقوط «طالبان»، فبعضهم ذهب إلى اليمن واعتصم بجباله الوعرة محتمياً بالمتطرفين هناك، الذين بنوا شبكة من المصالح والمنافع مع القبائل، مع ما لها من دور اجتماعي بارز. وهناك من تسلل إلى جمهوريات آسيا الوسطى والقوقاز، معتمداً على الجماعات والتنظيمات النظيرة المتواجدة في تلك البلدان، والتي ارتكبت أعمال عنف ضد الدول والمجتمعات. وهناك من تمكن من الذهاب إلى بلدان المغرب العربي، لينضم إلى ما يسمى «تنظيم القاعدة في بلدان المغرب الإسلامي»، سواء عن طريق البحر، أو التسلل عبر الأراضي السودانية، فيما حل بعضهم على السودان نفسه. وهناك من عادوا مرة أخرى إلى الصومال، وتعاونوا مع التنظيمات الدينية هناك التي سيطرت على أجزاء من الدولة، وأقتطعتها وحكمتها بتصورات وتشريعات مختلفة. واستضافت إيران عدداً كبيراً أيضاً من الجهاديين المصريين، كان على رأسهم محمد الظواهري، حتى يكون بوسعها أن تستخدمهم أو تستعملهم فيما بعد في تدابير تخدم مصالح طهران. وهناك من وصل إلى أوروبا وحصل على جنسيات في بلدان مختلفة، وبعضهم حصل على حق اللجوء، واستفادوا من الإمكانات التي توفرها الدول هناك سواء كانت مادية أم في مجال حقوق الإنسان، أو من خلال توظيف الغرب لهؤلاء في تحقيق مصالحه، مثلما ظهر بعد ثورة 25 يناير ووصول «الإخوان» إلى الحكم. وحين غزت الولايات المتحدة العراق وجد هؤلاء الفرصة سانحة للذهاب إلى أرض جديدة، أو وطن بديل، تحت راية «الجهاد» ضد الأميركان، وصاروا جزءاً من التنظيم الذي تمكن من إعلان ما سمي بـ«دولة العراق الإسلامية»، التي كانت نواتها الرئيسية هي «جماعة التوحيد والجهاد» بزعامة أبي مصعب الزرقاوي الذي بايع تنظيم «القاعدة»، قبل أن يختلف معه في مرحلة لاحقة. ولما اندلعت الثورة في سوريا، هاجر هؤلاء إليها، ولملموا أشتاتهم من كل مكان، وساهموا مع متطرفين سوريين وبمساعدة من بعض الدول الإقليمية في تحويل الثورة إلى حرب مذهبية واقتتال أهلي وصراع إقليمي ودولي، حتى انتهى الأمر يإعلان ما يسمى «داعش» وهنا وجد الجهاديون المصريون، سواء الذين جاؤوا إلى سوريا من تركيا وبلدان أوروبية أو سافروا إليها رأساً من مصر في سنة حكم «الإخوان»، فرصة سانحة كي يمارسوا ما تعلموه من خبرات طويلة ليس فقط في القتال الميداني، وإنما أيضاً في إنتاج الأفكار والآراء الفقهية المغلوطة التي تمثل أيديولوجيا لـ«داعش» أو مساراً لحركتها وأهدافها وآخرها كتاب «إدارة التوحش» الذي ينسب إلى أحد الجهاديين المصريين. ومن هنا نرى أن هناك تواصلاً في الأفكار والتحركات لتنظيم «الجهاد المصري» منذ السبعينيات وحتى الوقت الراهن، وفي كل المراحل كانت له بصمته سواء على «القاعدة» أو على «داعش»، وبالتالي حين تطلب مصر مساعدتها في مواجهة الإرهاب فهي لا تتحدث هنا عن نفسها ومصالحها فقط، بل نيابة عن العالم أجمع، لو كان هناك من يراجع التاريخ ويعتبر من وقائعه وأحداثه المتلاحقة. ----------- روائي وباحث في علم الاجتماع السياسي - مصر