ما حدث في فرنسا يمكن أن يتكرَّر في أي مكان آخر، لأن الإرهاب لا يؤمن بدين ولا جغرافيا سياسية أو طبيعية، فما نراه على الساحة الفرنسية المشتعلة بالنقيضين: تطرف ضد الإسلام والمسلمين وتطرف مضاد من داخل المسلمين أنفسهم وليس للإسلام ذنب فيه ولا ناقة ولا بعير. نؤمن واقعاً بأن فرنسا هي التي صدّرت تمثال الحرية إلى أميركا وهي اليوم تستمتع بنتائج الثورة التي حدثت في حينها في باريس مدينة الأضواء التي ألف فيها الشيخ رفاعة الطهطاوي عندما زارها لأوَّل مرّة معبراً عن انبهاره بهذه المدينة الحرّة في كتابه «تخليص الإبريز في تلخيص باريز». فرنسا التي لا زالت تعالج آثار إصابتها بطعنات «الإرهاب» الذي يسمى بـ«الإسلامي» زوراً وبهتاناً تعاملت مع الحدث بلا مبالغة ولا تشنج ولا استفزاز، بل أكدت على أنها مستمرة في مشروعها الحضاري الذي لا يؤثر فيه «الإرهاب» المنفلت من عقاله مهما كان مريعاً ومقززاً، لأن الحرية في فرنسا تبلع كل ذلك ولا يقف في بلعوم أحد شيء منها. إن تمسك فرنسا ومن ثم أوروبا من حولها بمكتسباتها الحضارية هو الذي يوقف شر الإرهاب والإرهابيين عنها مهما كان فظيعاً أو دنيئاً، لأن ما بنته الحريّة الفرنسية للعالم أكثر صلابة من بنيان «الإرهاب» المهترئ من الأساس. فعندما تخرج ميركل زعيمة أوروبا كلها في الوقت الحاضر في مظاهرة ضد أعداء الإسلام والكراهية، فإنها ترسل رسالة صريحة ليس فقط للداخل الأوروبي، بل للعالم العربي والإسلامي على وجه الخصوص، حيث ما زال البعض أسرى للماضي السحيق في الإسلام والسياسة والاقتصاد، فهذا القسم من جغرافيا العالم ككل لم يستطع إلى الآن تقديم مشروع من الجانب الحضاري الناصع لهذا الإسلام المظلوم من قبل أهله أولاً وأخيراً. فإذا لم يرفع الظلم عنه من قبل أهله، فلا نستطيع أن نجبر عشاق الحرية في العالم الغربي قاطبة بالابتعاد عن المساس بالدين الإسلامي أو أي دين آخر، لأن السياق الحضاري أو القالب المجتمعي مختلف عمّا هو متداول من القوالب في العالمين العربي والإسلامي. والمظاهرات والمسيرات والاحتجاجات في العالم المتقدم وفي الغالب الأعم تكون سلمية وإيجابية تجاه المجتمع ومن خلالها تسترد حقوق بطريقة سلمية وقد تتحوَّل بعد حين إلى قوانين ولوائح مؤسسية تساهم في تقوية البناء الحضاري في القارة الأوروبية والأميركية. فهذا الأمر لو حدث في بعض المجتمعات العربية والإسلامية، فإن النتيجة لن تكون كما نراه اليوم في أوضاع الدول العربية التي سقطت أنظمتها في فترات قياسية فيما لو قسناها بعمر أنظمة الحكم ذاتها. فالمظاهرات والمسيرات فيها، تعني فوضى عارمة تقلب على المحق وغير المحق الطاولة ثم تترك الأمور هكذا بلا كراسي شاغرة إلا عبر فوهات البنادق وأروقة المليشيات التي ترتكب أفظع الجرائم في حق الأبرياء قبل أي شخص آخر تحت مسمى الحرية والعدالة والديمقراطية التي أصبحت هي العملة الزائفة التي يراد لها الترويج لهدم بقية الخير في مجتمعاتنا العربية والإسلامية. وبناء عليه، قد نسمع أو نرى متطرفاً نازياً في أوروبا يسيء إلى الإسلام ذاته في قدسيته وسماحته وحضاريته لأن نفراً من المسلمين فجروا أنفسهم لمصالح شخصية لا علاقة للإسلام بها البتة. فمن المسؤول في العالم العربي والإسلامي عن الدفاع عن حرمة هذا الدين العظيم، فإن ترك هذا الإسلام السمح بيد أفراد مرضى ومأزومين منذ البداية لهْو عين العاصفة القادمة إلى العالم أجمع. ومن هنا ندعو العالم العربي والإسلامي بكل مؤسساتهما الدينية والمدنية إلى تبني مشروع يخص الجانب الحضاري للإسلام وما يتعلق بالسلوك والمعاملة بالحسنى بين جميع البشر على أساس من الإنسانية المتوحدة في كل الناس وبكافة الأجناس، وبغير ذلك فإن «الدواعش» ستتكاثر لأن أهل الإسلام الحقيقيين لم يتوحدوا على قلب رجل واحد لنبذ الإرهاب جملة وتفصيلًا. وعندما تضاء أنوار الحضارة الإسلامية على الغرب المتقدم لتشارك في البناء المستدام لكل أحلام العالم وليس المسلمين فقط، فهنا نقطة البداية لدحر الإرهاب من جذوره.