بعض الأشخاص المثيرين للشفقة يشعرونك بأنهم على تواصل مع قصر الإليزيه، وأن مصادرهم بداخل مقر الرئاسة الفرنسية تخبرهم أولاً بأول بأن الرئيس الفرنسي فرانسوا أولاند لا يزال يجلس هناك منذ المجزرة التي حدثت في صحيفة «شارلي إيبدو» قبل أسبوع، محاطاً بعشرات الموظفين الذين لا يفوّتون أي مداخلة لمسلم على قناة تلفزيونية، أو أي مقالة في جريدة يديرها مسلمون، أو أي تغريدة يكتبها مسلم، تتعلق بتلك الجريمة الإرهابية، إلا وضعوها على طاولة الرئيس. من دون هذا التصور لا يمكن فهم أولئك المثيرين للشفقة، فمع كل رأي لمسلم دان فيه تلك الجريمة الهمجية، حكّ هؤلاء رؤوسهم واستحضروا أسئلتهم المعتادة وأمطروه بها: وماذا عن الحروب الصليبية؟ وماذا عن محاكم التفتيش الإسبانية؟ وماذا عن جرائم الاستعمار؟ وماذا عن وعد بلفور؟ وماذا عن جرائم إسرائيل؟ وماذا عن غزو العراق؟ وماذا عن الرسومات المسيئة للإسلام؟ وماذا عن كل شيء حصل لنا بسبب الغرب؟ ويعتقد هؤلاء المثيرون للشفقة أن هذا الغرب لا شغل له في الحياة إلا متابعة «حواراتنا»، وأنه ينتظر كلماتنا، واستنكارنا، وتعازينا، ومواساتنا، بينما نحن في الحقيقة أحوج الأمم إلى كل ذلك، فنحن وإنْ كنا ندين الأعمال الإرهابية التي تقع في الغرب، والشرق أيضاً، وفي كل مكان من العالم في حقيقة الأمر، وهذا أضعف الإيمان على أية حال، فإننا نفعل ذلك وعيوننا على شبابنا، نريد أن نقول لهم إن هذه الأعمال مرفوضة، ونريد أن نقول لهم إن هذا الطريق خاطئ، ونريد أن نقول لهم إن الإسلام الذي يعتقده الإرهابيون، ليس هو الإسلام الذي نعرفه نحن. ورغم بشاعة فكرة السخرية من الرموز المقدسة، والتي تنم عن قلة ذوق وانعدام للشعور بالمسؤولية، فإن القضية في الحقيقة ليست في الرسومات المسيئة، والتي هي عموماً انعكاس لصورة النبي الذي يتخيّله من يمارسون الإجرام باسم الإسلام، وليست في رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي يعرفه ويحبه أي مسلم سوي؛ لا يمكن للرِيش أن ترسمه ولا للأقلام أن تصفه، وإنما القضية في ثقافة الموت الرائجة في هذه المنطقة، وباسم الله في كل مرة، ويضلل الناس من يصور لهم أن الإرهاب بدأ منذ أسبوع على عتبة مبنى تلك الجريدة المشؤومة، بل لو عدنا إلى الوراء أسبوع واحد فقط، فلن يختلف الوضع في أي شيء: الإرهاب في مكانه، والمبررين في أماكنهم، والمشوشين يؤدون عملهم، إذ المجزرة الأخيرة التي وقعت في فرنسا لم تكن حادثاً معزولاً وفريداً حتى نحصر كلامنا ودفاعنا ومغالطاتنا فيه، كما يقول الكاتب مشاري الذايدي. هناك أجيال ناشئة تراقب ما يحدث، وهناك الملايين من الشباب الذين لم يحددوا موافقهم بعد، وهناك الملايين من الذين لا يزالون في مرحلة التأثر بغيرهم، وبعد سنوات قليلة سيصبحون في مرحلة التأثير على غيرهم، وحين يخلو المسرح إلا من نباح الإرهابيين، وأكاذيب المبررين، وتشويش المغالطين، فلن يكون بعيداً ذلك اليوم الذي يختفي فيه صوت العقل تماماً من هذه المنطقة.