اهتزت فرنسا قاطبة الأسبوع الماضي على إثر الاعتداءات على جريدة «شارلي إيبدو» الساخرة، حيث قُتل 12 شخصاً، عندما اقتحم الأخوان شريف وسعيد كواشي -فرنسيان من أصول عربية- مبنى الجريدة وأمطرا العاملين بوابل من الرصاص. وفي حادثة أخرى، احتجز «أمادي كوليبالي» رهائن في متجر يهودي بباريس، قبل أن تدهمه الشرطة ويخر صريعاً. وقال «كوليبالي» قبل أن يلقى مصرعه لمحطة تلفزيونية فرنسية إنه قد وافق على الانضمام لحركة الأخوين كواشي، وإنه ينتمي إلى تنظيم «داعش». ويبدو أن التغطية الأوروبية للحدث اختلفت كلية عن التغطية العربية، فقد ظهرت الصحف البريطانية رابطة الحدث بأنه حرب على الحرية، وكانت المانشيتات كالتالي: الديلي ميل: الحرب على الحرية. ديلي تلغراف: حرب على الحرية. التايمز: اعتداء على الحرية. الجارديان: إهانة للديمقراطية. ولأن التغطية والمزاج العربي والإسلامي استشعرا حجم الإساءة التي نشرتها الصحيفة المذكورة للنبي الكريم، صلى الله عليه وسلم، تلك الإساءة المدانة وغير المبررة، إلا أن اللهاث وراء العواطف قد يحجب الحقيقة عن الأعين، ولا بد لنا من معالجة الأمر بشيء من العقلانية لا القتل. لقد دان العالم الجريمة التي وقعت ضد الصحافيين الفرنسيين العاملين في الجريدة المذكورة، التي دأبت على الإساءة للرموز الدينية الإسلامية، وغيرها من رموز الأديان الأخرى؛ لأن الاختلاف لا يمكن أن يُحل بالقوة وترهيب الآخرين، بل توجد محاكم عادلة يمكن اللجوء إليها. هذا إذا ما جنحنا نحو التحضر وعدم الانجرار وراء موجات الإرهاب التي تجتاح العالم العربي من كل صوب وحدب! كما أن النبي، صلى الله عليه وسلم، عامل الذين آذوه وحاربوه بالحسنى وأطلق سراحهم عندما فتح مكة «اذهبوا فأنتم الطلقاء». وكان بيده أن يحكم عليهم بالقصاص. نحن هنا لا نختلف على إدانة ما نشرته الجريدة، وهو يجرح مشاعرنا كمسلمين ولا خلاف على ذلك، ولا نريد من أحد أن يزايد علينا في هذا، وقد نحتاج لوقت طويل حتى تتشكل لدينا رؤية تخرجنا من ضبابية الموقف والالتباس الذي نحن فيه. ومع هذا نعترف بأن حرية التعبير -التي ركزت عليها الصحف الأوروبية- لا يمكن أن تكون صائبة، إن مسّت عقائد الناس ورموزهم الدينية. ونحن في العالم العربي لا نسمح بالإساءة إلى أحد من الأنبياء. بل نعتبر أية إساءة -بأي شكل من الأشكال- خروجاً على الطبيعة الإنسانية والأخلاق والمهنية. كما أن كثيرين داخل المجتمع الفرنسي غير راضين أيضاً عن الإساءة للرموز الدينية، ومنهم مَن برر الهجوم الإرهابي على الجريدة تبريراً متحالفاً مع الرؤية العربية والإسلامية، مثل الكاتب اليساري «ميشيل فيدو» الذي علق على الحادثة بالقول: «علينا أن نكون عادلين. إذا كنا ضد الإرهاب، ولسنا ضد الإسلام. فما معنى السخرية والاستهزاء من نبي الإسلام محمد؟ وأنا أسأل محرري صحيفة شارلي إيبدو: هل كان النبي محمد إرهابياً؟ كما وأحب أن أسأل الرئيس فرانسوا أولاند: من الذي بدأ؟ ألسنا نحن بادأناهم إعلامياً وعسكرياً؟ أولًا بنشر صور مسيئة لنبيهم، وثانياً أرسلنا طائراتنا لقتل أبنائهم في العراق.. هم لم يأتوا إلينا يا سيادة الرئيس، نحن ذهبنا إليهم، وعلينا أن نتوقع ردود أفعالهم وأن نتحمل النتائج»!. ومع أن الهجوم على مبنى الجريدة عمل إرهابي، فإن نشر الصور المسيئة لنبينا الكريم صلى الله عليه وسلم أيضاً من أعمال الإرهاب والتحريض والتشويه. ونتساءل: ماذا سيستفيد القارئ من نشر تلك الرسوم المسيئة؟! وما هي القيمة الخبرية المهنية التي تود الجريدة إيصالها للجمهور؟ لقد علمونا في الجامعات الأميركية والأوروبية محددات «القيم الإخبارية»، ونظرية المسؤولية الاجتماعية، ولكن للأسف، فإن بعض وسائل الإعلام في أوروبا وأميركا، لا تلتزم بتلك القيم ولا بالنظريات، وتخالف الدقة والموضوعية التي هي من أهم القيم الإخبارية. لقد سرت بعد الحادثة عدة تكهنات، منها: أن الحادثة بأكملها «مُختلقة»، وأن ضغطاً إقليمياً يُمارس على فرنسا كي تشارك بقواتها في ليبيا! تماماً كما حدث في 11 سبتمبر عندما قالت التكهنات: لا يمكن لـ«القاعدة» أن تمتلك تلك القوة والمعلومات الاستخباراتية وتقتحم أنظمة الرادارات والمخابرات الأميركية وتقوم بذلك العمل الضخم! كما تم بث شريط قتل الشرطي بواسطة رشاش، من مسافة أقل من متر، دون أن تسيل الدماء من رأس الشرطي! وتم تداول هذا الشريط على أنه مفبرك! ومهما قيل، فإن استخدام العنف أمر لا يُحقق أي مكاسب، بقدر ما يبث الكراهية بين الناس، كما أن ردود الفعل على ذلك الفعل ستصيب آخرين أبرياء، لجأوا إلى فرنسا وأوروبا بعد أن ذاقوا الضنك وويلات جبروت السلطة في بلدانهم المتخلفة، والتي لا تعرف قيمة الإنسان، ولا توفر له أدنى درجات الحياة الكريمة. إن أفضل طريقة لمعالجة الإرهاب والتطرف هي تجفيف المنابع في العالم العربي، وبدون ذلك ستشهد بلدان عربية حوادث مماثلة، لأن موجة التطرف ورفض الآخر أصبحت ضمن الثقافة العربية التي لا تعترف بحق الآخر في الحياة.