إن أي إساءة ترد للذات النبوية، من كاتب أو خطيب أو رسام، يمتلك مساحة التعبير عن رأيه، لا يقصد الذات نفسها، بقدر ما يقصد رافعي رايتها خطأً، والحاملين النصوص خارج زمانها. المبالغين في التشدد، ليس ضد الآخر حسب إنما ضد أهل دينهم أنفسهم. مع ذلك اعتبر القرآن مثل هذه الإساءات لغوا، «والَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (المؤمنون: 1-3)، و"خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِين”(الأعراف 199). فماذا يؤثر رسم أو حرف؟ لم تنل رواية البريطاني سلمان رشدي الانتشار، والتضامن معه لولا فتوى آية الله الخميني (ت 1989)، بقتله في (فبراير 1989). مع أن رشدي لعب روائياً على خبر جاء في كتب الحديث والتاريخ (انظر: الطبري، تاريخ الأمم والملوك)، والطبري (ت 310هـ) طاردته الغوغاء في حينها ليس لهذا السبب، ولا لما فسره في سواد الحجر الأسود، إنما لقضية أخرى، وكان على منزلة كمفسر وفقيه ومؤرخ. مع اعتراضنا الشَّديد على تناول المقدسات، في أدب أو فن، لكنها المفروض لمن يصفون أنفسهم بالمؤمنين، هي ضرب من اللغو والجهل، مثلما تقدمت الإشارة. ظهر كتابان جمعا فيهما مصنفاهما أحاديث وروايات خاصة بعقوبة الإساءة للذات النَّبوية: "الشفا بتعريف حقوق المصطفى" للقاضي عياض (ت 544هـ)، و"الصَّارم المسلول على شاتم الرَّسول"، لشيخ الإسلام ابن تيمية (ت 728هـ)، صنف القاضي كتابه بطلب مِن أحد الرؤساء: "وإنك كررت عليَّ السؤال في مجموع يتضمن التَّعريف بقّدر المصطفى، عليه الصَّلاة والسَّلام. فاعلم أكرمك الله أنك حملتني ذلك أمراً إمراً، وأزهقتني في ما ندبتني إليه عُسراً"(الشفا). لم يبتكر القاضي تلك الأحكام، فهو القائل: "أجمع عوام أهل العلم على أن مَن سب النبي يُقتل"، بعد التجريد مِن الإسلام، على أساس أن السّب يعتبر مِن الإيذاء، وإن النبي أمر بقتل كعب الأشراف لأنه كان يؤذيه. لكن القاضي يتوقف عند آخرين آذوا النبي ولم يقتلهم، فالقضية إذن حسب طبيعة الموقف. لم يكتف القاضي بالحكم على شاتم النبي أو معيبه، أما تناول حكم الإساءة للصحابة. فيتصل بما حدث مِن تكفير متبادل بسبب المواقف السياسية بين المذاهب، وقد أفردنا عدة مقالات لتاريخ السَّب. أما تصنيف ابن تيمية لكتابه، وما يؤخذ عليه مِن تشدد ضد المذاهب، فلها سبب، ألا وهو الظرف الذي عاشه والمغول قد هاجموا الشّام (السابع الهجري)، ونال غضب السلاطين فسجن أكثر مِن مرة. كذلك وردت فتاوى أو مسائل في المعاملات، في كتب مراجع الشيعة تشير إلى عقوبات مثل هذه، إنْ وقعت على الذات النبوية أو أئمة المذهب، ولا يفوتنا القول إنه خطاب أزمة، ولد بتأثير الصراعات، وتلك لها لحظات لا يجوز أن تبقى خالدة مخلدة. لقد تغير الزمن، وغير المسلم وأقصد الغربيين، الذين يعيشون الحرية في السياسة أو الدين، لا يميزون بين الذات النبوية وأتباعها، وأن أي تصريح لمتشدد أو ممارسة عنف، أو الحط من قدر المرأة، مثلما حدث وقتل بسببها المخرج الهولندي، يحسبونها على الأصل، ينظرون إلى المتطرف بدينه لا بشخصه، ومن خطأهم ونقص اطلاعهم، لم يحسبوا حساب أكثر مِن سبعين آية ومئات الأحاديث في المودة والإخاء الديني والاجتماعي، وقبل أن تعلن "وثيقة لندن الجماعية (1783م)": «قضية رفاقنا في الخليقة: الأفارقة المقموعين» (ديلبيانو، العبودية في العصر الحديث)، نجد الإمام علي بن أبي طالب (اغتيل 40هـ)، أوردها في كتابه لابن الأشتر (اغتيل 37هـ)، قبل عشرة قرون: «فإنِّهم صنفان: إما أخ لك في الدِّين وإما نظير لك في الخّلق» (نهج البلاغة، شرح محمد عبده). عموماً، ما حصل بباريس فاق الرسوم، وقدم المسلمين على أنهم لا يجيدون سوى العنف، ولا يميزون بين العصور أو الأزمنة. مع القول: إن القتلة أو مَن أفتى لهم، لم يكونوا مدافعين عن الذات النبوية إنما عن وجودهم كقوة عابثة. أما الرسوم فتقصد رافعي الراية النبوية وتوظيفها. فهذا الفضل بن العباس بن عتبة بن أبي لَّهب ت 95هـ يعبر عن توظيف هذه الراية سياسياً، ليس الأمس بل اليوم أيضاً، مخاطباً الوليد بن عبدالملك (ت 86هـ)، بعد أن غضبه عليه لمدحه خصمه عليَّ بن عبدالله بن عباس (ت 117هـ): "فإن محمـداً منَّـا وإنَّـا/ذوو المجد المُقدَّم والفعالِ/بنا دان العبادُ لكم فأمسوا/يسوسهم الركيكَ من الرِّجال (الأنباري، الزَّاهر في معاني كلمات النَّاس).