كم أشعر بالسرور، لأنني فرنسي اليوم الأحد، 11 يناير، فقد عرفتْ البلاد هبّة جمهورية مطمئنة، في لحظة نادرة من التعاطف الوجداني الجمعي الوطني، وفي جو عام عارم من مشاعر الاعتزاز والكرامة، فبعدما أصاب فرنسا من فجيعة بسبب الأعمال الإرهابية التي وقع جراءها 17 ضحية خلال هذا الأسبوع (12 متعاوناً في صحيفة شارلي إيبدو، وشرطية بلدية، وأربعة زبائن في فرع لبقالة «كاشير»)، وقفت البلاد كلها وقفة رجل واحد، متعالية بذلك على خصوماتها التقليدية المعهودة. وقد عبرت هذه الهبّة والتعبئة الوطنية العامة عن نفسها بخروج 1,5 مليون إنسان في شوارع باريس، ومليون في مدن الأقاليم، للتعبير معاً عن رفضهم للإرهاب ومنطق الرعب، وتعطشهم للحرية، وهذه سابقة، إذ لم يشهد العالم أبداً هبّة أو تعبئة بكل هذا الزخم والحجم بعد وقوع هجوم إرهابي. وسجلت أيضاً سابقة أخرى، فقد جاء قرابة خمسين رئيس دولة أو حكومة، أوروبيين، ومن قارات أخرى أيضاً، من ضمنهم الرئيس الفلسطيني ورئيس الوزراء الإسرائيلي، للتعبير عن دعمهم للجمهورية الفرنسية، وحتى بعد هجمات 11 سبتمبر نفسها، وهجمات مدريد 2004 ولندن 2005، لم نرَ أبداً مثل هذا الحشد الدولي. ولأول مرة يُرى جمهور من رؤساء الدول مشاركاً في تظاهرة في الشارع، وبطبيعة الحال هنالك بعض من تأسفوا على أن التظاهرة شارك فيها مَن وصفوهم بأنهم زعماء لا يحترمون في بلادهم حرية الصحافة، ولكن هذا لا ينقص أيضاً شيئاً من حقيقة أن الكل قد لا يكونون متفقين في توصيفهم لمفهوم الديمقراطية، ولكنهم اجتمعوا في هذا اليوم كلهم متفقين على كلمة سر واحدة: لا للإرهاب، نعم لحرية التعبير. والأهم في الأمر كان توجيه رسالة الوحدة في الموقف، وحتى أن المتظاهرين العاديون أنفسهم لاشك أن لديهم هم أيضاً توجهات مختلفة حول قضايا وموضوعات كثيرة، ولكنهم تركوا هذه الاختلافات، وأحياناً حتى الخلافات، وراء ظهورهم، فقد كان هناك مسيحيون، ومسلمون، ويهود، وملاحدة، وأناس يتفقون مع فلسفة «شارلي إيبدو»، وآخرون يختلفون معها تماماً، وأشخاص ذو مواقف متباعدة بصدد السياسة الخارجية.. الخ، ولكن كل هؤلاء وأولئك أرادوا توجيه رسالة واحدة جامعة، وقد اختلط في المسيرة اليمين واليسار السياسيان، وتلزم هنا الإشادة بموقف المعارضة -الفرنسية- لأنها لم تنتهز فرصة هذه المأساة للتشكيك في فاعلية أداء الحكومة في مجال الأمن، وهذا يستحق الثناء حقاً. لقد خرج الرئيس أولاند بموقف معزز، سواء على المستوى الوطني أم الدبلوماسي، فقد توحدت فرنسا وتصالحت مع نفسها، في تظاهرة باهرة من الحشد الدبلوماسي غير المسبوق، وفي الوقت نفسه، حشدت أيضاً مُظهرة رفضها لثقافة الكراهية، وكان الإجماع كاملاً على رفض الابتزاز الإرهابي، وجرى كل ذلك في جو من الثقة في النفس والبهجة في الوقت نفسه. ولكن يلزمني القول هنا أيضاً، إنني أشعر بالقلق كذلك على فرنسا، فلئن كان هذا الأحد صار يوماً استثنائياً، إلا أن الوقت الأصعب والأصلب يبدأ الآن، وينبغي التحسب لتحديات ما بعد الغد. وإذا كان الإرهابيون قد تم تحييد خطرهم، فإن التهديد ما زال قائماً، ويمكن أن يضرب في أية لحظة، وفي أي مكان، فلم يكن، ولن يكون هناك أبداً حالٌ تكون فيه درجة الخطر صفراً. وهذا يعني أن علينا تعلّم كيف نعيش مع وجود هذا التهديد، تماماً مثلما نعيش الآن مع مخاطر أخرى كثيرة قد تتهدد حياتنا، وعلينا أن نفعل ذلك دون أن نقع في حبائل جنون العظمة، وهنا يتعين أن نكون حذرين دون أن نفسح الطريق لثقافة الرعب لأن تنال منا، وأيضاً دون تغيير أسلوبنا في الحياة والحرية، أما إن حوّلنا حياتنا إلى خوف ورعب، فبذلك نمنح الإرهابيين انتصاراً، دون أن نقلل، في المقابل، من حجم التهديد، إنه تحدٍّ كبير. وأهم من ذلك أيضاً: هل الرغبة في العيش المشترك التي عبّرت عن نفسها يوم الأحد ستستمر؟ فهنالك كثير من اليهود الفرنسيين يساورهم القلق حول ما إن كانوا سيتعرضون لهجمات معادية للسامية، ويمكن أن نختلف على أسباب هذا الخوف، ولكنه حقيقة لا يمكن إنكارها، على كل حال، وهنالك أيضاً مسلمون فرنسيون يشعرون بنظرات الاشتباه أو الإلغاء، ومع غيابها عن التظاهرة، يمكن لمارين لوبن، هي الأخرى رفع عقيرتها بخطاب تحامل وتشويه جارف للإسلام، لتكون هي الرابحة! ولكن يمكن لخطاب التشويه والشيطنة أن يكون أيضاً نوعاً من النبوءة المحققة لذاتها، إذ قد يتسبب في نوع من الانطواء على الذات لدى جزء من الشريحة المسلمة وجنوح بعض أفرادها نحو نزعات الراديكالية والتطرف، وفرنسا التي اغتنت دائماً باختلافاتها وتعدديتها هي الآن في حال يمكن أن تصبح فيه الاحتقانات الشرائحية، في المقام الأول، دفعاً في أتون حلقة مفرغة، ومن الضروري، بدلاً من ذلك، الدخول في حالة تفكير جماعي حول سُبل تحفيز نزعات المساكنة والرغبة في العيش المشترك، وهو ما يستلزم بالضرورة تجنب رفع قفاز التحدي والابتعاد عن إلقاء أية شعارات صِدامية، أو خطاب إقصائي، وكذلك تجنب الاستجابات قصيرة المدى التي يمكن تمريرها إعلامياً بيُسر ولكنها لا يمكن أن تصمد أمام الاختبار على المدى الطويل. ولذا فإن على رجال السياسة في بلادنا التصرف كرجال دولة، ويلزم أن تتخلى وسائل الإعلام عن إثارة الحساسيات، وتتبنى مدوَّنة سلوك إعلامي صارمة، ولكن الاستجابة الحقيقية لهذه التحديات كلها تأتي أولاً من المجتمع المدني، وكل الشعب الفرنسي الغني بنسيجه التعاوني القوي، الذي يتعين عليه لعب دور أساسي، إن لبلدنا مستقبلاً واعداً حقاً.