لا ترقى الدعوة الروسية إلى «لقاء تشاوري» بشأن الأزمة السورية إلى مستوى المبادرة، فلا تصور لعناصر حل سياسي متكامل تضمنته الدعوة، ولا خطة محددة لإدارة حوار بطريقة منظمة في مدى زمني معين، ولا سعي إلى وقف إطلاق النار، ولا حتى إلى هدنة مؤقتة جزئية من النوع الذي يدعو إليه المبعوث الدولي ستيفان دي ميستورا في حلب، كل ما تنطوي عليه الدعوة الروسية هو أن يجلس أشخاص من المعارضة الوطنية تختارهم موسكو من دون معايير واضحة مع ممثلي نظام بشار الأسد. وإذا كانت لهذه الصيغة دلالة، فهي أن روسيا تريد أن تتحرك في لحظة تراها مواتية لها في ظل التعقيدات التي تواجه حرباً يشنها التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة ضد الإرهاب، وفي ظل عدم تحقيق هذه الحرب نتائج ملموسة حتى الآن، وفي غياب أي تحرك سلمي في أزمة تقترب من نهاية عامها الرابع، يظهر فراغاً يُغري كل باحث عن تعظيم دوره للتحرك فيه، وهذا نمط معروف ومتكرر في العلاقات الدولية والإقليمية، فليس عيباً أن تتحرك دولة، أية دولة، سعياً إلى استثمار وجود فراغ ما في لحظة معينة لتحقيق مصالحها أو تعزيزها، فما العلاقات الدولية إلا مصالح في سطرها الأول وفي محصلتها الأخيرة. غير أن ثمة مشكلة بنيوية تواجه تحرك روسيا في مساحة تعتقد أنها تستطيع أن تُعَّزز مصالحها فيها، فهي طرف رئيس في الأزمة التي تريد أن تكون وسيطاً فيها، بل إنها أحد ثلاثة أطراف خارجية متورطة فيها بشكل مباشر وعلى مستوى لا يقل عن القوى الداخلية المتصارعة، أما الطرفان الخارجيان الآخران، فهما إيران ومنظمات تابعة لها في المنطقة من ناحية، وجماعات العنف وتنظيماته الإرهابية وفي مقدمتها «القاعدة»، و«داعش» من الناحية الثانية. وإذا كانت إيران تقاتل فعلياً في صف نظام الأسد على الأرض، من خلال الحرس الثوري و«حزب الله» ومنظمتين عراقيتين مسلحتين على الأقل، فروسيا هي المصدر الرئيس لإمداده بالأسلحة والذخائر، بما فيها قطع غيار الطائرات التي تجعل أية منطقة تقذفها «قطعة من جهنم». وفي الوقت الذي وجهت موسكو الدعوات إلى اللقاء الذي تسعى إلى عقده بين 26 و29 الجاري، كانت طائرات الأسد التي يقوم خبراء روس بصيانتها تشن غارات مدَّمرة، وتصب حممها على عدد من المناطق حول دمشق وفي حلب. لقد كانت العمليات الجوية هي المصدر الرئيس لقدرة نظام الأسد على الصمود منذ اندلاع الانتفاضة ضده، حيث أتاحت له ضرب آية منطقة دون رد أو عقاب. وفي ظل إنهاك قوات النظام البرية، واعتماده على تجييش مجموعات «الشبيحة» ثم استعانته بمقاتلين أرسلتهم إيران ومنظمات لبنانية وعراقية تابعة لها، ازدادت أهمية القوات الجوية، وصارت هي أهم عناصر عدم التكافؤ في الصراع لما تتميز به من قدرة على استنزاف المعارضة. فليست هناك منطقة في سوريا بمنأى عن هجمات الطائرات، حتى بعد أن فقدت القوات الجوية خمساً من قواعدها الرئيسية الخمس والعشرين وتعرض سبع أخرى منها للحصار. وكانت القوات الجوية التي يعود «الفضل» إلى روسيا في تمكينها من العمل بشكل يومي تقريباً لما يقرب من أربع سنوات، هي الدافع الأول وراء عسكرة الانتفاضة السلمية نتيجة عجز المعارضة الوطنية عن السيطرة على معظم المناطق التي ثار الشعب فيها خلال الشهور الأولى، وبسبب انشقاق عدد متزايد من ضباط وجنود جيش النظام، سواء لأن ضمائرهم لم تتحمل القصف الوحشي العشوائي للمدنيين، أو لأنهم فقدوا أقارب لهم أو عائلاتهم كلها. ولذلك تتحمل روسيا مسؤولية كبرى عن عسكرة الانتفاضة، وما تلاها من دخول تنظيمات إرهابية وتوسعها، وهذه هي المعضلة الأعظم أمام أية محاولة لإيجاد حل سلمي في سوريا، التي تتحول يوماً بعد يوم إلى مجموعة من «الكانتونات» المتحاربة، ويتنامى فيها الإرهاب. ولذلك فحتى لو لم تكن روسيا طرفاً مباشراً في الصراع على نحو يتعارض مع دور الوسيط، فقد أصبح أي حل سلمي حلاً سلمياً مرهوناً بمواجهة الإرهاب، وتغيير البيئة التي أنتجته وتغذيه حتى الآن. ولما كان نظام الأسد هو أهم عناصر هذه البيئة، يصبح تغييره، وليس السعي إلى إعادة تأهيله على الطريقة الروسية هو بداية الطريق إلى إنقاذ سوريا.