ربما لا تبدو صحيفة «شارلي إيبدو»، الباريسية الأسبوعية التي تعرضت لهجوم إرهابي يوم الأربعاء الماضي، مضحكة للبعض. وهذا أمر طبيعي؛ فالناس في مختلف الدول يضحكون على نكات مختلفة ولديهم درجات متباينة من التسامح مع التعليقات الفظة سواء غير الملائمة أو الهجومية أو العادية. وفي حين تستعد الصحيفة، على رغم كل ما عانته، لطباعة مليون نسخة من عددها المقبل -أي 17 ضعف ما تطبعه عادة- من المهم أن نشير إلى أن هذه الصحيفة لها أصل أوروبي أوسع نطاقاً بكثير من نسختها الكوميدية الساخرة الفرنسية التي تستخدمها، ولجذورها قصة شخصية مغمورة تعرضت للتشويه حالها حال كثير من تاريخ القارة الحديث. وقبل تغيير اسم الصحيفة ليصبح «شارلي إيبدو»، كان رئيس تحريرها المؤسس هو «فرانسوا كافانا» بينما كان اسمها «هارا كيري»، وهو من غيّر اسمها في عام 1970، بعد أن حظرتها الحكومة الفرنسية بسبب نشرها خبر وفاة «شارل ديغول» في إطار تغطية صحفية ساخرة لحريق وقع في ملهى ليلي أودى بحياة 147 شخصاً. وكان «كافانا» ابن بناء إيطالي مهاجر، وترعرع في ضاحية باريس الشرقية الفقيرة، وعلى رغم استهزاء القوميين الفرنسيين به، إلا أنه كان مولعاً باللغة الفرنسية، وإن لم يجعلها مهنته سوى في مرحلة لاحقة من حياته. وفي عام 1943، عندما كان عمره عشرين عاماً، أرسله النازيون إلى ألمانيا للعمل في مصنع معدات حربية في «تريبتو» التي أصبحت الآن جزءاً من برلين. وهناك، ساعدته اثنتان من عاملات السخرة السوفيتيات، آنا وماريا، في صناعة أجزاء من قذائف المدفعية. واستخدمت ماريا، التي كانت تبلغ من العمر 19 عاماً، مزيجاً من الروسية والألمانية عندما كانت تعلم «كافانا» تشغيل الماكينة. ولكنها لم تتعلم أبداً نطق اسمه بشكل صحيح. وكان يعتقد في البداية أنها ألمانية، ولكنها كانت من «خاركيف» في شرق أوكرانيا. وفي روايته الأكثر نجاحاً التي تروي سيرته الذاتية، تعجب كافانا قائلاً: «أوكرانيا!؟». وأضاف: «لا يزال ذلك الاسم عالقاً في ذاكرتي، عندما قرأته في مكان ما على خريطة خضراء للاتحاد السوفييتي كانت تغطي صفحتين كاملتين من كتاب الأطلس المدرسي». وتعلم كل من كافانا وماريا لغة الآخر، وأحبا بعضهما بعضاً، وبذلا قصارى جهدهما كي لا يفترقا. وفي هذه الفترة التي عاش فيها كافانا في ألمانيا صاغ فلسلفة «لا يوجد شيء مخيف!». وفي ربيع عام 1945، نقل النازيون عمال السخرة إلى الغرب مع تقدم الجيش الروسي. وانتقل كافانا وماريا، بينما كان يتمنى لو أمكنهما السير عبر الجبهة الغربية إلى فرنسا. ولكن لم يقدر لذلك أن يحدث. وفي يوم ما عند عودته من رحلة لإحضار المؤن إلى المنزل الريفي الذي ترك فيه ماريا، كان الجيش السوفييتي قد اقتادها وأرسلها إلى الشرق، وعاد أدراجه بحثاً عنها، ولكنه قضى أسابيع على الطريق، وعاد خالي الوفاض. ولم ير كافانا «ماريا إيوسيفونا تاتارشينكو» مرة أخرى، على رغم أنه لم يتوقف عن البحث عنها بينما صنع لنفسه اسماً كرسام كاريكاتيري، وفي النهاية ككاتب ومحرر. وفي حين كانت الرواية التي تتناول حياته في ألمانيا، تمت ترجمتها إلى الروسية في بداية العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، وعندئذ كان كافانا قد انتهى من تأليف رواية أخرى أسماها «ماريا»، تدور أحداثها حول البحث عن صديقته، ولكن يبدو أنها لم تقرأ أبداً أيا من الكتابين بالفرنسية أو الروسية. ورحل كافانا عن عالمنا قبل عام على الهجوم الإرهابي الذي أسفر عن مقتل الرجلين اللذين وظفهما في «هارا كيري» -جان كابو وجورج ولينسكي- ليصبحا أسطورتين فرنسيتين كما كان كافانا. وعلى رغم ذلك لا تزال الحرب وقصة حياته وحبه كامنة في الحمض النووي لـ«شارلي إيبدو»، ويعني ذلك شيئاً واحداً بالنسبة لردود الأفعال العنيفة تجاه الأجانب في أوروبا: هو أن الصحيفة الساخرة التي أسسها كافانا تمثل رمزاً خاطئاً لليمين المتطرف. فمن يهاجمون مزيج الثقافات في أوروبا الحديثة ليس من شأنهم إثارة اسم «شارلي إيبدو» أو أسماء الضحايا من محرريها ونجومها. وعند معرفة قصة «صديقة كافانا الأوكرانية الناطقة بالروسية»، تبدو أيضاً الدعاية الروسية الراهنة، التي تصف الهجوم بأنه نهاية التسامح الأوروبي، جوفاء. ليونيد برشيدسكي ----------- يُنشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفيس»