ماذا يتوقّع المسلمون حول العالم بعد الجريمة الإرهابية المروّعة في قلب باريس، أن يقال مثلاً إن الإرهابيين شيء والمسلمون شيء آخر، أو أن الإسلام دين المحبة والتسامح أما الإرهابيون فلا دين لهم، وما العمل بادّعاء القتلة أنهم يثأرون للنبي عليه السلام من مجلة «شارلي إيبدو» التي أساءت إليه بتصميم وإصرار؟ وهل يمكن تسفيه الفرنسيين إذ يقولون إن الهجوم على صحيفة والتصفية الجسدية لأهم العاملين فيها اعتداء على حرية التعبير، ولذلك اقتبسوا شعاراً من صميم ثقافتهم، فصار «أنا شارلي» تضامناً مع الضحايا وتأكيداً للتمسّك بالحرية، التي باتت نقيضاً معلناً للإسلام؟ هذا نقاش قديم جديد في فرنسا، وفي الغرب، وقد ساد غداة هجمات 11 سبتمبر 2001 في الولايات المتحدة. فللغرب قيمٌ شعر/ أو قرر في ذلك اليوم أن الإرهاب «الإسلامي» يستهدفها ويتحدّاها. في ثمانينات وتسعينات القرن الماضي شهدت فرنسا تفجيرات من هذا النوع، حين لم يكن «الإرهاب» توصيفاً رائجاً، لكن الحكومة جهدت حينذاك، كما تحاول الآن، للحؤول دون «الخلط» بين الإرهاب والإسلام، وبين إرهابيين ومسلمين. لكن الرأي العام له موقف آخر، يرى أن «هؤلاء» ليسوا منه بل دخلاء عليه، وبالتالي فهو يسأل «من هم؟» وإذ يجد أنهم يُشهرون شعارات ذات طابع ديني فإن اقتناعه لا بدّ أن يُختزَل بـ «إنهم مسلمون»، أي من حضارة مختلفة. وليس في الإعلام ما يساعد على تغيير هذا الحُكم أو تدقيقه، بل هناك العكس، خصوصاً أن «الإسلاميين» لا يتوقفون عن تغذية الإعلام بالبلاهات وبما يسمونه «فتاوى». ومنذ حلّ «داعش» في الديار، وتصرّفه كـ «دولة»، واستيراده مسلمين ومسيحيين متطوعين للاستدعاش، لم تعد الحجج الدينية ولا السياسية ولا الأكاديمية ولا حتى شهادات الاستخباريين تكفي لتغيير الصورة أو لتليين الاقتناعات. ما الذي يجمع بين مرتكبي الجريمة المولودين في فرنسا، وأي مسلم آخر يعيش في فرنسا أو ولد فيها؟ لا شيء، فالمسلمون الذين يراوحون بين خمسة وستة ملايين يمارسون حياة أقرب إلى الطبيعية حتى لو لم تكن غالبيتهم مندمجة تماماً في المجتمع. وخلافاً لليهود إزاء إسرائيل، أو للآسيويين تجاه مواطنهم، لا تبدي غالبية المسلمين تفاعلاً استثنائياً مع قضايا بلدانهم الأصلية رغم مرورهم في فرنسا بمراحل صعبة خلال حرب الجزائر، أو حين كانت باريس بالغة الانحياز لإسرائيل. غير أن التسييس المبرمج والمفتعل للإسلام، في غمار الاحتلال السوفييتي لأفغانستان أو في سياق صراع إيران مع الغرب، ما لبثت لوثته أن انتقلت من بلاد المسلمين إلى مهاجرهم. وإذ استطاع معظم المهاجرين الاستفادة من الفرص المتاحة لبناء حياةٍ أفضل لهم ولأولادهم، فإن قلّة منهم ظلّت غارقةً في ثقافة الكسل والبطالة والتواكل بل أورثتها للأجيال التالية التي وجد أفراد منها أن ثمة فرصة في الاشتغال بالدين كمهنة يتحصّنون بقداستها ويتسلّحون بالأهداف «السامية» التي يضخّها «الائمة» و«الأمراء» في رؤوسهم الفارغة. هذه القلّة في الغرب لا تختلف بظروفها الحياتية والاجتماعية عن أي فئة مضللة في أي بلد عربي أو مسلم. وإذا كان الغرب يجنّد الكثير من موارده الأمنية لمكافحة «الجريمة المنظمة» (ترويج المخدّرات والدعارة والسلاح) في ضواحي مدنه الكبرى. واقعياً، هذه وتلك عصابات مسلحة. والفارق بينها ليس في الأضرار الناجمة عن جرائمها، وإنما في كون الإرهاب يمس عصبي الدين والسياسة. وهذه العصابات الإرهابية، مثل مافيات الجريمة المنظمة، أصبحت جزءاً من مجتمعات الغرب ولم تعد منتمية إلى بلدان عربية أو مسلمة، إذاً يجدر التعامل معها كعصابات حتى لو كانت تدّعي أنها «جماعة إسلامية». أما بالنسبة إلى «شارلي إيبدو» فإن ضحاياها جعلوا منها رمزاً لحرية التعبير. ولا شك أن الذين رفعوا شعار «أنا شارلي» شعروا بدورهم أنهم مستهدفون في وجدانهم. لكن مسألة الحرية لا تُختزل بمجلة اعتادت المسّ بالمحرمات ولا تحترم أي دينٍ أو قيم. الكل يعلم أنها تكسر الأنماط وتفتعل الإثارة، تسخر من كل الهويات والانتماءات وتغازل كل التطرّفات، أي أنها غدت هامشية تخاطب الهامشيين والشعبويين وتتصارع معهم في آن. كل ذلك لا يسوّغ قتل العاملين فيها. فالإرهاب مستنكر، واستغلال حرية الفكر في التعرّض لمقدسات الأمم مستنكر أيضاً. أحد أفظع خطايا الإسلاميين أن غباءهم جعل الإسلام على قارعة الطريق عرضةً لكل الإساءات.